المبحث الثاني: مبدأ العَفْو عن الأسرى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان العفو جوهرة أخرى بالغة الإشعاع في شخصية الرسول [1]
ضمن سلسلة الانتهاكات التي تواجهها الأمة الإسلامية قام بعض الجنود من أفراد الجيش الألماني المشارك في احتلال أفغانستان بعمل شنيع، وذلك عندما قام الجنود بقتل مجموعة من الأفغان ثم قاموا بالتمثيل بجثثهم بتقطيع أعضاء من جسدهم وسحبهم بسيارات عسكرية أمام الأفغانيين[2].
هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فُكُّوا الْعَانِيَ[3]، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ"[4].
ويقول صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ قَالَ: لَا إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا....."[5].
لم يكن حثُّ الرسول صلى الله عليه وسلم على العفو عن الأسرى، والمنِّ عليهم أمرًا خياليًا يُجمِّل به صورة المسلمين، بل كان أمرًا واقعيًا أفرز مجموعة من المواقف يعجز المرء عن استيعاب عظمتها، وأجمل ما فيها أنها لم تكن مواقف عابرة حدثت نتيجة ظروفٍ خاصّة، أو تحت ضغوط معيّنة، إنما كانت منهجًا ثابتًا، وسُنَّة ماضية، وتشريعًا خالدًا استحالَ أن يجود الزمانُ بمثله. وَلْنَمُرَ سريعًا على بعض الأمثلة التي تُظهر رحمته وعفوه صلى الله عليه وسلم عن أسرى أعدائه، وذلك من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: أسيرا سريّة نخلة:
أَسَرَ المسلمون في هذه السرية – وكانت في رجب من السنة الثانية من الهجرة - اثنين من المشركين هما أول أسيرين في الإسلام؛ الحَكَم بن كيسان وعثمان ابن عبد الله، فأما الأول – الحَكَم - فنظرًا لما وَجَدَهُ من المعاملة الكريمة فإنّه أَسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، وأقام عند رسول الله حتى استُشهِدَ يوم بِئْرِ معونة في السنة الرابعة للهجرة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرًا...[6]
ومع أنّ هذين هما أوَّل أسيرين يظفر المسلمون بهما بعد طول العناء والتعذيب من مشركي مكة الذين ينتسب لهم هذان الأسيران؛ إلا أن ذلك لم يكن دافعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسَّهما بأذى، بل على العكس كان الإكرام والصفح عنهما.
وهذا الموقف له دِلالات كبيرةٌ جدًا، حيث إنّه وضَّح من البداية سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسرى، ومع أنّ هذا كان من الممكن أن يُطمع فيه المشركون إلا أنَّها سياسة الرحمة التي لا بديل عنها في الرؤية النبوية، وقد ازداد هذا المعنى رسوخًا عندما رأينا رؤيته صلى الله عليه وسلم للتعامل مع أسرى بدر بعد أقلّ من شهرين من سريّة نخلة.
----------------------------------
[1] استانلي لين بول (مستشرق بريطاني): تاريخ الخلفاء والسلاطين في الإسلام، ترجمة عباس إقبال ـ الدار العربية للموسوعات 2006
[2] موقع وكالة الأنباء السعودية على شبكة الانترنت ، 4 شوال 1427هـ - 26 أكتوبر 2006م، الرابط الكتروني http://www.spa.gov.sa/details.php?id=398206
[3] العاني: هو كل من وقع في ذل واستكانة وخضوع.
[4] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فكاك الأسير (2881)، وأبو داود (3105)، وأحمد (19535)، والدرامي (2465)، وابن حبان (3324)، والطيالسي (489)، والطبراني في الأوسط (2592)، والبيهقي في شعب الإيمان (9165)، وفي سننه الكبرى (6367)، والنسائي في السنن الكبرى (7492).
[5] أحمد (18670)، وابن حبان (374)، والحاكم (2861)، والبخاري في الأدب المفرد (69)، والدارقطني في سننه 2/135، والطيالسي (739)، والبيهقي في سننه (21102)، عن البراء بن عازب، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات 4/438، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
[6] ابن كثير: السيرة النبوية 2/366 بتصرف.
المقال السابق
المقال التالى