المبحث الثالث: رحمته صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية
كان محمد كريمًا بارًا كأنه الريح السارية[1]
لم يكن "صفوان بن أميَّة بن خلف" يختلف كثيرًا عن عكرمة بن أبي جهل ؛ فقد كان أبوه من أشد المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الذين قُتِلُوا في بدر، وورث صفوان بن أميّة هذه الكراهية من أبيه للإسلام والمسلمين، وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل طاقته، وكان ممن التفَّ حول ظهر المسلمين في أُحد هو وخالد بن الوليد، واشترك اشتراكًا مباشرًا في قتل سبعين من شهداء الصحابة ، واشترك أيضًا في غزوة الأحزاب، وكان من الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة..
بل إن صفوان بن أمية كان قد دبَّر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه المحاولة بينه وبين ابن عمّه عمير بن وهب[2]، وكان وقتها لا يزال كافرًا.. وفيها تعهَّد صفوانُ بن أمية لعمير بن وهب أن يتحمل عنه نفقات عياله، وأن يسدِّد عنه دَيْنه، في نظير أن يقتل عميرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ..!! إلا أن المحاولة فشلت، وذلك عندما أسلم عمير بن وهب في المدينة المنورة بعد أن أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما دار بينه وبين صفوان في حجر الكعبة!!
ومرَّت الأيام، وجاء فتح مكة، وفرَّ صفوان بن أمية، ولم يجد له مكانًا في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يُسْتَقْبَلَ في أي مكان في الجزيرة العربية؛ فقد أصبح الإسلام في كل مكان، فقرر أن يُلقي بنفسه في البحر ليموت، فخرج صفوان في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار[3]، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، وهو في أشد حالات الهزيمة النفسية، ورأى صفوان من بعيد أحد الرجال يتتبعه، فخاف، وقال لغلامه: ويحك انظر من ترى؟
قال الغلام: هذا عمير بن وهب.
قال صفوان: وماذا أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلى، فهو قد دخل في الإسلام وقد ظاهر محمدًا عليَّ.
ولحق عمير بن وهب بصفوان بن أمية، فقال له صفوان: يا عمير ما كفاك ما صنعتَ بي؟ حمَّلتني دَيْنَك وعيالَكَ، ثم جئتَ تريد قتلي..؟!
فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِدَاكَ..! قد جِئتُكَ من عِنْدِ أَبَرِّ الناس، وأوصل الناس.
لقد رأى عميرٌ ابنَ عمه وصديقه القديم صفوان يهرب من مكة، فَرَقَّ له، وأشفق عليه، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال له: يا رسول الله، سيد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تُؤَمِّنَهُ، فداك أبي وأمي.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "قَدْ أَمَّنْتُهُ"!!
هكذا!!
وتمامًا فعل صلى الله عليه وسلم معه مثلما فعل مع قرينه عكرمة..
إنها ليست أبدًا مواقف رحمة عابرة..
إنه - باختصار - منهج حياة..!!
قال عمير بن وهب لصفوان: إن رسول الله قد أمَّنَكَ.
فخاف صفوان، وقال: لا - والله - لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها.
فرجع عمير بن وهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال له: يا رسول الله، جئتُ صفوانَ هاربًا يريد أن يَقْتُلَ نفسه، فأخبرته بما أَمَّنْتَهُ، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الرحمة: "خُذْ عِمَامَتِي إِلَيْهِ"!!
فأخذ عمير العمامة، وذهب إلى صفوان بن أمية، حتى وصل إليه، وأظهر له العمامة وقال له: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعِزُّه عزك، ومُلْكُهُ مُلْكُكَ، ابنُ أمِّك وأبيك، أُذكّرك اللهَ في نفسك.
فقال له صفوان في منتهى الضعف: أخافُ أن أُقتل!
قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سَيَّرك شهرين!!
ولننظر إلى هذا العرض السخي الرحيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو أسلم صفوان لانتهت القضية، وأصبح له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، وإن أراد أن يأخذ شهرين كاملين يفكر فيهما فهو في أمان!
كل هذا برغم التاريخ الطويل الذي يعرفه الجميع، وبرغم أنه كان مطلوب الدم منذ أيام!!
فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس صلاة العصر فوقفا سويًا، حتى ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال صفوان لعمير بن وهب: كم تُصلون في اليوم والليلة؟
قال: خمس صلوات.
قال: يصلي بهم محمد؟
قال: نعم.
فلمّا سَلَّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى من صلاته، صَاحَ صفوان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني بعمامتك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا وإلا سَيَّرْتَنِي شهرين.
فقال صلى الله عليه وسلم في رفق وسهولة: "انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ".. (وانظر إليه يُكَنِّيهِ ويَتَلَطَّفُ إليه!)..
فقال صفوان في خوف: لا - والله - حتى تُبيِّن لي!!
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "بَلْ تَسَيَّرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ"[4]!
وبالفعل أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر كاملة ليفكّر..!!
ثم كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنين، واحتاج إلى الدروع والسلاح، وكان صفوان بن أمية من كبار تجار السلاح المعروفين في مكة، ويملك عددًا كبيرًا منها، ومع أنه كان مهزومًا مقهورًا في ذلك الوقت، ومع أنه كان لا يزال على شِرْكِهِ، ومع أن تاريخه شديد السواد مع المسلمين إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منه هذه الدروع على سبيل الاستعارة، حتى أن صفوان دُهش من استعارته صلى الله عليه وسلم للدروع وهو مُنتصر متمكن، فسأله ليستفسر: أَغَصْبٌ يا محمد؟ فقال: "لا بل عاريةٌ مضمونة"[5]. لقد أخذها منه على سبيل الاستعارة، وبالثمن، ثم هو يضمن إن فُقِدَت أو تلف منها شيء أن يُعوِّضه عنها!!
هل في تاريخ الأمم مثل هذه المواقف؟!
وخرج صفوان مع المسلمين إلى حنين ليرعى أسلحته، وانكسر المسلمون في أوّل الأمر، ثم أُتْبِع الانكسار بانتصار مَهِيب، وجمع المسلمون غنائم لم يسمع بها العرب قبل ذلك، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يقم به قائد في تاريخ البشرية، إذ وقف يقسّم الغنائم بكاملها - على كثرتها!! - على الجنود، دون أن يحتفظ لنفسه بشيء!
وكان صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلّفة قلوبهم[6] من المسلمين مائةً مائةً من الإبل والشياه، وحقَّق المؤلفة قلوبهم من الثروة ما أَذْهَلَ عقولهم، حتى تنازل السادة عن كبريائهم وعِزَّتهم، وذهبوا يطلبون العطاء المرّة تلو المرّة! والرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم لا يردُّ سائلاً، ولا يمنع طالبًا..
ومن بعيد يقف صفوان بن أمية متحسِّرًا وهو يشاهد توزيع الغنائم، فهو ما زال من المشركين، وليس له إلا إيجار السلاح.. ولكنْ حَدَثَ في لحظةٍ ما أذهل صفوان، وأذهل المشاهدين للموقف والسامعين عنه، وسيظلُّ مُذهلاً للناس إلى يوم القيامة!!
لقد نادى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفوانَ بن أمية، وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى الزعماء المسلمين من أهل مكة[7]!!
أيتوقع إنسان - أيًّا كان كرمه أو سخاؤه - أن يحدث منه مثل هذا..؟!
ولم يكن هذا نهاية الموقف!
لقد وَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ صفوان ما زال واقفًا، ينظر إلى شِعْبٍ من شِعاب حُنين، قد مُلِئ إبلاً وشياه، وقد بَدَتْ عليه علامات الانبهار والتعجب من كثرة الأنعام، فقال له صلى الله عليه وسلم في رِقَّة: "أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْب؟"..
قال صفوان في صراحة شديدة: نَعَمْ.
إنه لا يستطيع أن يترفع أو أن ينكر.. إن المنظر مبهر حقًّا!!
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بساطة وكأنّه يتنازل عن جمل أو جملين: "هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ"[8]!!
أذهلت المفاجأة صفوان، ووضحت أمام عينيه الحقيقة التي ظلت غائبة عنه سنين طويلة، ولم يجد صفوان بن أمية نفسه إلا قائلاً: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي.. أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله!!
وأسلم صفوان في مكانه!!
يقول صفوان بن أمية: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني، حتى صار أحبَّ الناس إليّ[9]!!
أيُّ خيرٍ أصابَ صفوان ..!!
إنّ الدنيا بكاملها - وليست الإبل والشياه فقط - تفنى وتزول، ولكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، وكم من البشر سيُخلَّد في نعيم الجنة؛ لأنّه أُعطِى ذات يوم مجموعة من الإبل والشياه!
أليست هذه رحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج حدود التصوّر؟!
لقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الأغنام - مهما كثرت - ثمن زهيد جدًا للإسلام، فهانت عليه، بل هانت عليه الدنيا بكاملها، فأعطاها دون تردد، فالدنيا عنده لا تَعْدِلُ جناح بعوضة، والدنيا عنده قَطْرَةٌ في يَمٍّ واسع، والدنيا عنده أهون من جَدْيٍ أَسَكَّ[10] مَيِّتٍ، ولم يكن هذا كلامًا نظريًّا فلسفيًّا، وإنما كان حقيقة رآها كل المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بعيونهم، كان واقعًا في حياته، وحياة الصحابة ، وحياة من عاملهم من المسلمين وغير المسلمين..
ولم يتبقّ في يده شيء لنفسه صلى الله عليه وسلم !!
لم يحتفظ بشيء، ورأى الناس منه ما جعل عقولهم تطيش، وأفئدتهم تضطرب، فانطلق الأعرابُ يزدحمون عليه صلى الله عليه وسلم يطلبون المال والأنعام لأنفسهم قبل أن تنفد، حتى اضطروه صلى الله عليه وسلم - وهو الزعيم المنتصر، والقائد الأعلى - أن يلجأ إلى شجرة، وانتزع الأعراب رداءه، فقال في أدبٍ ورفقٍ ورحمةٍ ورِقَّة، تليق به كنبيٍّ، وتجدر به كمُعَلِّم:
"أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلا جَبَانًا، وَلا كَذَّابًا"[11].
وصدق صلى الله عليه وسلم .. فما كان بخيلاً، ولا جبانًا، ولا كذّابًا..
وكما حدث مع الزعماء السابقين، فقد مرَّ "سهيل بن عمرو" بنفس التجربة!
---------------
[1] إيفلين كوبولد (شاعرة إنجليزية): الأخلاق، صـ 66
[2] هو عمير بن وهب الجمحي القرشي، شهد بدرًا مع المشركين، وحاول قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه أسلم وحسُن إسلامه، وعاش إلى خلافة عمر. الاستيعاب 3/294، أسد الغابة 3/797، الإصابة، الترجمة (6058).
[3] هو أبو فكيهة مولى صفوان بن أمية، قال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس يجلس إليه المستضعفون من أصحابه: حباب وعمار وأبو فكيهة يسار. الإصابة، الترجمة (10384)، أسد الغابة 5/ 249.
[4] القصة كاملة في الموطأ برواية يحيى الليثي عن مالك عن ابن شهاب (1132)، وفي مصنف عبد الرزاق عن الزهري (12646).
[5] أبو داود (3562)، وأحمد (15337)، والبيهقي في سننه (11257)، والحاكم (2301)، وهو حسن الشواهد، ويشهد له ما جاء في حديث جابر، والذي أخرجه الحاكم (4369)، وهو صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ويشهد له أيضًا ما جاء في حديث ابن عباس بنفس اللفظ والذي أخرجه الحاكم (2301) وصححه ووافقه الذهبي.
[6] المؤَلَّفةُ قلوبهم: قومٌ من سادات العرب أَمر اللّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أَول الإسلام بتَأَلُّفِهم، ليُرَغِّبوا مَن وراءهم في الإسلام؛ فلا تَحْمِلهم الحَمِيَّةُ مع ضَعْف نِيّاتِهم على أَن يكونوا إلْباً مع الكفار على المسلمين، منهم الأَقْرَعُ بن حابس، وأَبو سفيان. انظر: تهذيب اللغة 5/ 186، وانظر: لسان العرب، والقاموس المحيط، وتاج العروس، مادة (ألف).
[7] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 2/153.
[8] ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 253 - 434.
[9] مسلم: كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا وكثرة عطائه (2313)، والبيهقي في سننه (12965).
[10] أسكّ أي: صغير الأذنين، وهو عيب في الجدي.
[11] البخاري عن جبير بن مطعم: كتاب الخمس، باب ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم (2979)، وابن حبان (4820)، ومالك برواية يحيى الليثي عن عمرو بن شعيب (977).