عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم الرحمة فى حياة الرسول _ د/ راغب السيرجاني
الكاتب د/ راغب السيرجاني
تاريخ الاضافة 2012-09-23 21:30:55
المشاهدات 2055
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

المبحث الثاني: رحمته صلى الله عليه وسلم  بعكرمة بن أبي جهل
لقد صور البعض الرسول بأنه قاسي القلب، وهذه الصورة أبعد ما تكون عن الحقيقة[1]
 
كان عكرمة من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم  ضراوة في تاريخ السيرة كلها، وقد شَرِبَ العداوة جُلَّ هذه المدة الطويلة من أبيه فرعون هذه الأمة وألدِّ أعداء الإسلام "أبي جهل".. ولكن عكرمة استمر وزاد في العداوة للدرجة التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم  يُريق دمه عند فتح مكة باعتباره من مجرمي الحرب آنذاك..

كان عكرمة من القليل الذي قاتل في الخندمة[2] ضد خالد بن الوليد t، ولكنه بعد هزيمته فرَّ من مكة المكرمة وحاول أن يصل في فراره إلى اليمن، وذهب بالفعل إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن[3]..
إن طريقه في الكفر طويل، وهو مطلوب الدم، وإذا وجده الرسول صلى الله عليه وسلم  سيقتله بلا جدال.

وقد أرادت زوجة عكرمة (أم حكيم بنت الحارث بن هشام)[4] أن تنقذ زوجها، فذهبت - بعد أن أسلمت - إلى الرسول صلى الله عليه وسلم  لتشفع عنده لعكرمة بن أبى جهل في أن يعود إلى مكة المكرمة آمنًا، وقالت: "قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنْهُ"..
فرد الرسول صلى الله عليه وسلم  في رحمة عجيبة: "هُوَ آمِنٌ"[5]!!
لم يذكر لها صلى الله عليه وسلم  أنه مهدر الدم، ولم يذكِّرْها بتاريخه الطويل، ولم يقل لها: أنت حديثة الإسلام جدًا فكيف تشفعين لغيرك؟!

لم يقل لها أيَّا من ذلك، ولم يشترط عليه أو عليها شروطًا، وإنما قال: "هُوَ آمِنٌ"!
وخرجت أم حكيم الزوجة الوفيّة تبحث عن زوجها، وذهبت حتى وصلت في رحلة طويلة إلى عكرمة وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متّجهًا إلى اليمن، فقالت له: "يا ابن عمّ، قد جئتك من عند أَوْصَلِ الناس، وأبرِّ الناس، وخيرِ الناس.. لا تُهلك نفسك، إني استأمنت لك محمدًا صلى الله عليه وسلم ".
فقال لها: أنت فعلتِ هذا؟!
 قالت: نعم[6]..

وعكرمة بن أبي جهل في ذلك الوقت يرى الدنيا كلها قد ضُيِّقَتْ عليه، فأين يذهب؟ إنه يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة، وبقاع الأرض تتناقص من حوله، والجميع الآن يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم  وحِلفه، فأخذ عكرمة قرارًا سريعا بالعودة معها دون تفكير طويل.
وعاد عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، وقبل أن يدخلها إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول لأصحابه كلمات جميلة..
قال: "يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ"[7].

فأيُّ أخلاقٍ كريمةٍ كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم !
لقد كان أبو جهل فرعون هذه الأمة، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم  يأمر الصحابة y بألا يَلْعَنُوا أبا جهل أمام ابنه عكرمة؛ لكي لا يؤذوا مشاعره، مع أن عكرمة لم يُسْلِمْ حتى هذه اللحظة..
ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، ومن بعيد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فماذا فعل..؟!

   هل تذكَّرَ أبا جهل؟!
   هل استعاد بذاكرته الغزوات التي شارك فيها عكرمة صادًّا عن سبيل الله..؟!
   هل فكر في قتال عكرمة للمسلمين منذ أيام عند الخندمة..؟!
   هل نظر إلى حالة الضعف والهوان الشديد التي جاء بها عكرمة، فأراد أن يُلَقِّنَهُ درسًا يعرف به قوة الدولة الإسلامية؟!

إنه صلى الله عليه وسلم  لم يفعل أيًّا من هذا الذي يتوقّعه أيّ سياسي!!
لقد وَثَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى عكرمة وما عليه رداء فرحًا به[8]، وانبسطت أساريره وهو يرى "عكرمة بن أبي جهل" يعود إليه، مع أنه لم يُسْلِمْ بعد، لكنّ هذه هي طبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم  دون تَكَلُّف..
وجلس عكرمة بين يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: يا محمد، إن هذه (وأشار إلى زوجته) أَخْبَرَتْنِي بأنّك أمَّنتني..!!
   فقال الرسول صلى الله عليه وسلم  دون تفصيلات ولا شروط: "صَدَقَتْ فَأَنْتَ آمِنٌ".

 
   فقال عكرمة: إلام تدعو يا محمد..؟
   فقال له: "أَدْعُوكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ تُؤْتِيَ الزَّكَاةَ". وتفعل، وتفعل... وأخذ يُعَدِّدُ عليه أمور الإسلام، حتى عدَّدَ له كلّ الخصال الحميدة.
   فقال عكرمة: ما دَعَوْتَ إلا إلى الحقّ وأَمْرٍ حَسَنٍ جَمِيل..!!
والقلوب بين أصابع الرحمن يقلِّبُهَا كيف يشاء، ففي هذه اللحظات فقط شعر عكرمة بن أبي جهل t أن كل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم  كان حقًّا، وأن كلّ ما تحدَّثَ عنه قبل ذلك أيام مكة وبعد مكة كان صدقًا، وكان من كلام النبوة والوحي..!!

وهنا قال عكرمة بن أبي جهل: قد كنتَ - والله - فينا تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقُنا حديثًا، وأَبَرُّنَا بِرًّا، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
وفي لحظة واحدة انتقل عكرمة من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان!!
إنها الرحمة الفطريّة في قلبه      صلى الله عليه وسلم ، التي تأسر قلوب الناس، ويهدي الله بها العباد!
 
وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  مع أبي سفيان وعكرمة { فعل مع كثيرٍ غيرهما.. وكان موقفه مع صفوان بن أمية من أروع مواقف التاريخ قاطبة..
 ------------------
[1] كارين آرمسترونج (كاتبة بريطانية): سيرة النبي محمد ـ كتاب سطور 1998 ( ترجمة: فاطمة نصر، محمد عناني)
[2] الخندمة: اسم موضع بناحية مكة، قال ابن الأَثير: هو جبل معروف عند مكة. انظر: القاموس المحيط ص1427- النهاية في غريب الأثر 2/ 161.
[3] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 160.
[4] هي أم حكيم بنت الحارث بن هشام، ابنة عم عكرمة، أسلمت يوم الفتح، واستأمنت النبيَّ صلى الله عليه وسلم  لزوجها عكرمة، وخرجت في طلبه فردته حتى أسلم وثبتا على نكاحهما. انظر أسد الغابة، 6/329، والإصابة، الترجمة (11973).
[5] الموطأ: رواية محمد بن الحسن (601).
[6] انظر المستدرك للحاكم: 3/ 269.
[7] الموطأ: رواية محمد بن الحسن (601)، والمستدرك 3/ 269، وضعفه الذهبي.
[8] المستدرك للحاكم: 3/ 269.




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق