لقاء مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم خلق الصبر
للصبر ماكنة سامية ؛ ومحلة عالية فى الاسلام ؛ فى غير موضع من كتاب الله تعالى يبين لنا الحق تبارك وتعالى كيف يكون جزاء الصابرون ؛ ويكفى ان الله تعالى يعطيهم أجرهم بغير حساب ؛ وبغير حساب تعنى أنه عطاءاً غير مجذوذ ؛ عطاء ما بعده عطاء ؛ لانه عطاء من فيض أكرم الاكرمين الذى ليس كمثله شىء وهو الوهاب الفتاح العليم ..
( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) سورة الزمر الاية 10
( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ ) سورة الاحقاف الاية 35
( وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ) سورة القصص الاية 80
واذا اردنا ان نتوقف مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ امام الصابرين ؛ لاحتجنا الى مجلدات عدة ؛ لكن بعض الكلمات أدل وأقرب من طوال المجلدات ؛ لذا سوف نكتفى بومضات ذات دلالة عظيمة..
فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة أو تزيد يدعو عبدة الاوثان واليهود والنصارى الى التوحيد الخاص ؛ دعوة قوية لايخفت صوتها ؛ ولا ينقطع صداها ؛ وهم يجدون فى هذه الدعوى تسفيهاً لقولهم ؛ وتهوين من شآن الهتهم الذى يعتقدونه ؛ وتقويضاً لسلطانهم ونفوذهم ونظمهم ؛ فيحشدون قواهم ؛ ويتخذوا جميع السبل لوأد هذه الدعوة .
وتجمع صناديد الكفر ؛ وكبراء الضلال ؛ وحشدوا كل ما يستطيعون حشده ؛ من البشر ؛ والاموال ؛ والاسلحة ؛ والمكر ؛ والدهاء ؛ والخداع ؛ وامتدت ايديهم بالاذى للنبى صلى الله عليه وسلم ؛ فاحتمله صلى الله عليه وسلم فى ثبات وجلد وصبر .
وظلت قريش تقلب القبائل ضد الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته بالجزيرة العربية ؛ بما لها من سلطان ؛ ورئاسة دينية على الحرم ؛ وداخل مكة لم تترك ثمة فرصة أو شبه فرصة لتمد بيديها بالاذى لوأد هذه الدعوة ؛ الا وقد فعلت .
واستمر النبى صلى الله عليه وسلم يدعو الى الله على بصيرة ؛ ويتحمل الاذى ؛ ويشعر بدعوته تمشى بطيئة ؛ لكنه أبداً لم ييئس من نصر الله الذى وعده ؛ ومن يقينه من أن الله تعالى بالغ أمره ؛ وناصر دينه .
ثم اذن الله تعالى له فى الجهاد ؛ فجاهد النبى صلى الله عليه وسلم حتى كتب الله لدينه النصر ؛ فصار أعداء الأمس اصدقاء اليوم ؛ وأقبل المشركون على دين الله أفواجاً ؛ وصاروا يحملون شعاره ؛ ويرفعون رايته ؛ ويرضعون مناره ؛ ويفدونه بأغلى ما يفتدى به عزيز غالى .
فجراح الالسنة صبر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وانها لجراح اليمة شديدة الوطأة على النفس فى مجتمع يحرص كل الحرص على الثناء وحسـن الاحدوثة أيما حرص ؛ وينفر من المذمة والهجاء أيما نفور .
لأن الالسنة تقوم فيه مقام الصحف والاذاعة ووسائل الاعلام فى المجتمع المعاصر ؛ حتى كان بعض السراة والملوك والامراء وكبراء القوم يغدقون على الشعراء استدراراً لمدائحهم ؛ واتقاء لهجائهم .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم فى مطلع الدعوة أشد ما يكون شوقاً الى ان يسمع من قومه ؛ ليرفعهم من الضلالة الى الهدى ؛ وكان موسوماً بينهم بالعقل والحكمة والصدق والأمانة والعفة ؛ فلم يسمعوا منه كذباً قط من قبل ؛ ولم يتناقلوا عنه نقيصه قط ؛ ومع ذلك كذبواْ ؛ واذوه أيما ايذاء ؛ وحاربوه الحرب الضروس التى لا تبقى ولا تذر ؛ فقتل كثير من الناس بسبب العناد والكبر وغمط الحق .
وهم قد عاندوا الحق ؛ واستكبروا أن يتخلوا عما ألفوا عليه اباءهم ؛ فجرتهم الخصومة الحمقاء الى ان يعمدوا الى الافتراء ؛ فاذا ببعضهم يتهمون النبى صلى الله عليه وسلم بانه حالم يهذى بما يتراءى له فى المنام ؛ واخرون يقولون عنه شاعر ؛ ووجد من يقول مجنون وازدجر ؛ وصوبوا التهم الباطلة اليه والذين هم على يقين من انه منها براء .
واذا هم يلصقون به ما تعارفوا عليه فى شعرائهم من التخيل والمبالغة ومهارة فى التأثير والاستهواء ؛ ثم يتمادون فى السفه فيتهمونه بالجنون وهو سيد العقلاء .
وكثيراً ما أذوه بأفعال قبيحة مصدرها الحنق والطيش والسفه والاستهانة ؛ وهم يريدون أن يصدوه عن سبيل الله ؛ ويريدون أن ييئسوه من نجاح دعوته ؛ وأن يفضوا أتباعه من حوله ؛ فكان يتلقى قبائحهم بالصبر الذى يشق طريق النصر ؛ وبالجلد الذى يغلب بحكمته جهلهم ؛ ويفوت عليهم أغراضهم ؛ اذ كان الصبر العظيم دليلاً على ان الرسول صلى الله عليه وسلم صادق مبلغ عن ربه والا ما احتمل هذا العدوان ؛ وهو لا يطلب ملكاً ؛ ولا يبتغى جاهاً ؛ ولا يتطلع الى مال ؛ فجعل الناس يقبلون على الاسلام فرادى وجماعات ؛ وتحملوا أذى المشركين فى شجاعة وثبات ؛ وهم يودون أن يفتدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحتمل من عدوان وإعنات .
قال بن مسعود : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد وهو يصلى ؛ فقال أبو جهل : ألا رجل يقوم الى فرث جزور بنى فلان ؛ فيلقيه على محمد وهو ساجد ..؟ فقام عقبة بن أبى معيط وجاء بذلك الفرث ؛ فألقاه على النبى صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ؛ ولم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا مع النبى صلى الله عليه وسلم أن يحموه ؛ اذ كانوا ضعافاً انذاك ؛ ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم ساجد حتى جاءت فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم فرمت القذر بعيداً عنه .
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث برقم 1172
وبعد وفاة عمه ابى طالب ؛ والسيدة خديجة ؛ انتهزت قريش ذلك ؛ حيث كانا عضداً ونصيراً له ؛ قبل الهجرة بثلاث سنين ؛ فأمعنت قريش وطمعت فيما لم تكن تطمع فيه من قبل ؛ فاعترضه سفيه من سفهاء قريش ؛ فحثا على رأسه التراب ؛ فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه ؛ فقامت اليه احدى بناته فجعلت تغسل التراب عنه وتبكى ؛ وهو يقول لها ؛ لاتبك فإن الله مانع أباك .
السيرة النبوية – لابن محمد عبد الملك بن هشام المعافرى – طبعةدار التراث العربى – 2 /58
ولما مات أبو طالب واشتدت قريش فى ايذاء النبى صلى الله عليه وسلم ؛ خرج الى الطائف فعمد الى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتها ؛ فجلس اليهم ؛ ودعاهم الى الاسلام ؛ واستنصرهم على من خالفوه من قومه ؛ فقال أحدهم : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ..؟ وقال الاخر : أنزع ستار الكعبة وارميها ان كان الله قد ارسلك . بمعنى انه يستبعد ويكذب أن الله ارسله لناس . وقال ثالث :الله لا أكلمك أبداً ؛ لان كنت رسولً كما تقول لأنت أعظم خطراً من ان أرد عليك كلام ؛ وان كنت كاذباً فما ينبغى أم كلمك .
وكانت المحصلة أن أعرض عنه القوم . فقام الرسول صلى الله عليه وسلم من عندهم وهم يتجرأون عليه ؛ فقال لهم أما وقد فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى .
لانه صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يعلم قومه بما حدث فيزدادوا جرأة عليه ؛ ولكن القوم لم يستجيبواْ ؛ وألجأوه الى بستان ؛ فاستظل بكرمه ؛ فلما أطمأن ؛ أخذ يدعو ربه ؛ ويتضرع الى الله ؛ فقال " اللهم اليك أشكو ضعف قوتى ؛ وقلة حيلتى ؛ وهوانى على الناس ؛ يا أرحم الراحمين ؛ أنت ربب المستضعفين ؛ وأنت ربى ؛ الى من تكلنى ..؟
الى بعيد يتجهمنى أم الى عدو ملكته أمرى ..؟ ان لم يكن بك غضب على فلا أبالى ؛ ولكن عافيتك هى أوسع لى ؛ أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ؛ وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة ؛ من ان تنزل بى غضبك أو يحل على سخطك ؛ لك العتبى حتى ترضى ؛ ولا حول ولا قوة الا بك " .
مجمع الزائد للهيثمى 6 /35– نقلاً عن تفسير : فى رحاب التفاسير – عبد الحميد كشك – تفسير سورة المزمل .
ثم هاجر النبى صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة ؛ فتعقبوه ؛ وتتابعت محاربتهم له ؛ وكثيراً ما جمعوا جموعهم من قبائل شتى ؛ للقضاء على مجتمع المسلمين بالمدينة .
وكانت الحروب بين المسلمين وأعدائهم متصلة متلاحقة ؛ فلا يكاد يتخففون من سلاحهم حتى ينذرهم اعدائهم بحرب ؛ فيسارع المسلمون الى السلاح ؛ ولقد انتصر النبى صلى الله عليه وسلم فى بدر والخندق وغيرهما ؛ لكنه فقد كثير من خلصائه واحبابه الذين عاشرهم سنين طويله فصبر على ذلك .
وصبر النبى صلى الله عليه وسلم على فقد الولد ؛ فقد أمل النبى صلى الله عليه وسلم أن يبقيهم الله تعالى له ليسعد بهم فى شيخوتهم ؛ لكن الله العليم الحكيم كانت له حكمة اخرى ؛ فهو سبحانه الذى يعلم وغيره لايعلم .
فمات الذكور صغاراً ؛ وكان أخرهم ابراهيم ؛ وأمل النبى صلى الله عليه وسلم أن يبقيه الله له ليسعد به النبى صلى الله عليه وسلم فى شيخوته ؛ وليكون له عقباً وذكرى ؛ وتعلق به النبى صلى الله عليه وسلم ؛ يلاعبه ويداعبه ؛ ويجد فى قلبه نحوه ؛ ما يجده كل أب حنون نحو أبنائه .
ومرت الايام.. والنبى متعلق به ؛ يحبه حباً جماً ؛ يداعبه ؛ ويلاعبه ؛ وما اجمل الاطفال فى هذه السن ؛ وما أكثر القلوب التى تتعلق بهم فى هذه الطفولة الملائكية ؛ ولم يلبغ ابراهيم ثمانية عشر شهراً ؛ حتى مرض مرضاً شديداً ؛ وأهل البيت جميعاً يتعاهدونه بالعناية والرعاية الفائقة ؛ ولكن متى كان الحذر يمنع القدر ؛ ومتى كان الاهمال هو الذى ياتى بالموت ؛ فلابد أن ينفد القدر مع كل الحذر ؛ وربما لم يأت الموت مع وجود اهمال .. اذا كان قضاء الله لم يأت بعد .
ويمرض ابراهيم ابن النبى صلى الله عليه وسلم ؛ وتمر الايام ثقيله على قلوب كل من البيت ؛ الكل فى ذهنه حال من سبقه من الذكور ؛ والكل يرجو ؛ ويدعو الله أن ينزل شفاءه على ابراهيم قرة عين النبى صلى الله عليه وسلم .
ولما شعر أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم أن المرض يشتد على ابراهيم ؛ وان حالته تسوء ؛ وتظهر عليه علامات ودلائل لاتخطئها أهل البادية ؛ أسرعوا فى طلب النبى صلى الله عليه وسلم ليكون بجوار فلذة كبده فى مثل هذا الموقف ؛ ولحظاته الاخيرة . قضاء الله لابد أن ينفد . فما هى الا دقائق حتى يأتى النبى صلى الله عليه وسلم مهرولا يصطحب معه عبد الرحمن بن عوف ؛ ودخل النبى صلى الله عليه وسلم مسرعا باحثاُ عن ابنه ابراهيم .
وجد النبى صلى الله عليه وسلم ابنه ابراهيم فى حجر أمه ؛ وعرف النبى صلى الله عليه وسلم ان هذه العلامات هى العلامات التى لايخطئها النبى صلى الله عليه وسلم ؛ انها لحظات خروج الروح ؛ فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم ابراهيم من حجر أمه ؛ وحمله ؛ وجلس النبى صلى الله عليه وسلم ووضع ابراهيم فى حجره ؛ والتقت نظرة الاب الحنون صلى الله عليه وسلم بعين ابراهيم .. وابراهيم ينظر الى ابيه مستغيثاً مما يجد .. والنبى صلى الله عليه وسلم يسيل الدمع على لحيته .. صامت .. لاحول له ولا قوة .. مثل سائر البشر .. ولو تحدث النبى صلى الله عليه وسلم : لقال له : فداك روحى يا ابراهيم .. لكنها ارادة الله العليم الخبير .. انا لا استطيع ان افعل لك شىء .. سوى أن احتضنك هكذا .. وليكن لقاؤنا فى جنة المأوى ..
وخروجت روح ابراهيم بين يدى ابيه وهو يحمله ؛ والدمع يسيل على لحية النبى صلى الله عليه وسلم ؛ وودع النبى صلى الله عليه وسلم ابنه بكلمات ؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم : يا ابراهيم لولا أنه أمر حق ؛ ووعد صدق ؛ وأن أخرنا بأولنا لحزنا عليك أشد من هذا .
فقال عبد الرحمن بن عوف - وكأنه يتعجب من بكاء النبى صلى الله عليه وسلم – وأنت أيضاً يارسول الله ..؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : انها رحمة ؛ ثم أتبعها بأخرى ؛ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " ان العين تدمع ؛ والقلب يحزن ؛ ولا نقول الا ما يرضى ربنا ؛ وانا بفراقك ياابراهيم لمحزونون " (1) .
(1) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث رقم 532
- ولقد علم النبى صلى الله عليه وسلم المسلمين الصبر قولاً وعملاً ؛ وحببه اليهم ؛ ونفرهم من الجزع وبغضه اليهم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : ما من مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمـر الله تعالى : إنا لله وإنا اليه راجعـون ؛ اللهـم أؤجـرنى فى مصيبتـى ؛ وأعقبنى خـيراً منهـا ؛ إلا فعل الله به ذلك " .
مسند الامام احمد 6/309
- وقال صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى الا حات عنه خطاياه كما يحات ورق الشجر .
صحيح البخارى – كتاب الطب 7/149
- وقد اتى بعض المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برادئه فى ظل الكعبة ؛ فشكوا اليه فقالوا : يارسول الله الا تدعو الله تستنصـره لنا ..؟ فجلـس محمر الوجه ثم قال : " ان من قبلكم ليؤتى بالرجل فيحفر له فى الأرض حفيرة ؛ ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ؛ فجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه " .
مسند الامام أحمد 6/395
- وقال صلى الله عليه وسلم : ان الله تعالى قال : اذا ابتليت عبدى بحبيته – يقصد عينه – فصبر عوضته منهما الجنة .
مسند الامام أحمد 3/144
- وقال صلى الله عليه وسلم الصبر نصف الايمان (5) المستدرك للحاكم 2/446
. وقال صلى الله عليه وسلم : الصبر ضياء .
- وقال صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لطم الخدود ؛ وشق الجيوب ؛ ودعا بدعوى الجاهلية
اللؤلؤ والمرجان فيما ااتفق عليه الشيخان حديق رقم 65
- وقال صلى الله عليه وسلم : عجباً لامر المؤمن ؛ ان امره كله له خير ؛ وليس ذلك الا للمؤمن ؛ ان اصابته سراء شكر فكان خير له ؛ وان اصابته ضراء صبر فكان خير له .
صحيح الامام مسلم 4/ 2999 & مسند الامام أحمد 4/332 .