قد يستغرب الكثيرون هذا العنوان ، وقد يقول قائل : ما دخل الشجاعة بالتعليم ن فضلاً عن المعلم ! نقول : الشجاعة التي نرمي إليها ، هي الشجاعة الأدبية كما يحلو للكثيرين أن يسميها بهذا الاسم ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، فأما الشجاعة التي يذهب الذهن إليها عندما نسمع هذه الكملة لأول وهلة ، فلقد كان نبيكم صلوات الله وسلامه عليه ن أشجع الناس ، حتى إن بعض الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحتمون ويلوذون به إذا اشتدت رحى الحرب لشجاعته عليه الصلاة والسلام . وأما الشجاعة المقصودة هنا ، فهي شجاعة الكلمة ، والاعتراف بالخطأ والمقصود البشري ، وهذا لا يكاد يسلم منه أحد ، أما التدليس ، والجبن ، والمراوغة فليست امراً محموداً ، ويحسن بالمعلم أن يناى عنه . ولعل الصورة تتضح بعد تأمل الأمثلة .
1- عن أبي رافع بن خديج قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يأبرون النخل . يقولون يلقحون النخل . فقال : ( ما تصنعون ؟ ) قالوا : كنا نصنعه . قال : (لعلكم لو لم تفعلوا كان خير لكم ) فتركوه . فنفضت أو فنقصت. قال فذكروا ذلك له فقال : " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به . وإذا أمرتك بشيء من رأي . فإنما أنا بشر " أخرجه ابن حبان في صحيحه (23) بإسناد حسن وفي بعض الروايات قال : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " . من سياق الحديث يتضح لنا بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يخضع للأحوال التي تعتري البشر من النسيان والخطأ وغير ذلك . أما في مقام التشريع فلا يجوز عليه ذلك ، نعم قد يحصل منه نسياناً في مقام التشريع لكي يشرع للأمة ، كما سلم من ركعتين للسهو، ومحل بسط ذلك في كتب الأصول . الحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه بشر وأن رأيه في الأمور الدنيوية التي ليس فيها تشريع قد يصيب وقد يخطئ . قال النووي " [ قول ] " ( أنتم أعلم باموردنياكم) قال العلماء : قوله صلى الله عليه وسلم من رأيي أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع . فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجب العمل به ، وليس من أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله .. ولو أننا أعدنا النظر إلى سياق الحديث مرة أخرى ، فإننا لا نجد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يجد لنفسه العذر عندما رأى هذا الرأي ـ وحاشاه ذلك ـ بل اعترف ببشريته ، وأن هذه الأحكام تجري على البشر .
وتعالوا بنا لننظر إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنرى كيف ترسموا خطى نبيهم عليه الصلاة والتسليم فمن ذلك
2- ما رواه مسروق قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائه درهم . فما دون ذلك .
ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها .
فلا عرفن ما زاد رجل في صداقة على أربعمائة درهم . قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : فقالت أما سمعت الله يقال : (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً)(النساء: من الآية20 ) الآية قال : فقال اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر . ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب .
3- عن محمد بن كعب القرظي قال : سأل رجل علياً بن أبي طالب عن مسألة فقال فيها ، فقال الرجل :ليس كذلك يا أمير المؤمنين ، ولكن كذا وكذا فقال علي رضي الله عنه : أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم ، الله أكبر انظر إلى تلامذة محمد صلى الله عليه وسلم ، يضربون أروع الأمثلة في الشجاعة ، والأنصاف ، ولو كان على حساب النفس ، وهذا والله ليزيد المرء عزاً ورفعة ، ولا ينقص من قدره شيئاً ، ومن ظن غير ذلك فقد حاد عن جادة الصواب . والمعلم بحكم وظيفته وبشريته ، معرض لمثل هذه المواقف ، فياترى ماذا يقول المعلم إذا أخطأ في مسألة ما وعارضه بها أحد طلابه ، ثم بان له الصواب ، فهل يبادر إلى شكر الطالب والاعتراض بالخطأ أم أنه يرواغ ، ويقلب الكلام بعضه على بعض ، حتى يبرهن لهم صحة قوله ؟ أترك لك الجواب !
يقول أين عبد البر : من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه ، ومن لم ينصف لم يفهم ،ولم يفهم .
الخلاصة :
1) إتصاف المعلم بالشجاعة ،مطلب لكل معلم .
2) الاعتراف بالخطأ ، ليس فيه تنقيص لصاحب الخطأ ، بل هو رفعة له ، ودليل على شجاعته .
3) الاعتراف بالخطأً معناه إصلاح الخطأ ، وعكسه الاستمرار عليه والعناية فيه .
المقال السابق
المقال التالى