فهو أكرم من خلق الله، وأزكى البرية نفسًا، وأكرمهم عشرة، وأجودهم كفًا ويدًا، فكفّه غمامة بالخير، ويده غيث الجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة.
☼ ولا جرم أن يكون هذا موقعه من الكرم، الذي هو جامع لمكارم الأخلاق؛ وهو الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم (أخرجه الحاكم وصححه الألباني).
☼ وهو الذي شهد له أكرم الأكرمين، عزَّ وجلَّ، بالكرم، شهادة مؤكدة بقسمه؛ فقال سبحانه: " فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ". [الحاقة: 38-40]
فوصفه سبحانه في هذا الموضع بالكرم دون غيره من أخلاقه العظيمة؛ كالصدق والأمانة؛ لكون كلِّ هذه الأخلاق مندرجة فيه؛ فأخلاقه صلى الله عليه وسلم كلُّها عظيمة كريمة، ولأنهم رأوا آثار هذا الكرم ويعرفونها جميعًا، حتى قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.
☼ تصفه زوجه خديجة رضي الله عنها، لما جاءها فزِعًا بعد نزول الوحي عليه أول مرة، وهي تهدئ من روعه؛ فتقول له: «إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» (البخاري ومسلم).
هكذا تصفه رضي الله عنها، بهذه الصفات البالغة عظمةً ودلالةً على بالغ كرمه وعظيم جوده صلى الله عليه وسلم!!
☼ وهذا كله قبل أن يكرمه الله بالنبوة؛ فكيف يكون كرمه بعد بعثته ونبوته؟!! كيف يكون كرمه وقد أدَّبه ربُّه وأحسن تأديبَه؟!! كيف يكون كرمه وقد نزل عليه القرآن؛ الذي هو خُلُقُه صلى الله عليه وسلم؟!!
☼ فلا جرم أن يكون صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجود الناس، ولم يمنع يومًا أحدًا شيئًا سأله إياه، بل كان ينفق مع العدم، ويعطي مع الفقر، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ فهو سيِّدُ الأجواد على الإطلاق.
☼ شهد له بذلك أعداؤه قبل أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ يقول أحدهم ـ وقد أدهشه هذا الكرم؛ فأسلم ولم يجد بُدًّا من محبته صلى الله عليه وسلمـ يقول: أَعْطَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ!! (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
والقائل هو: صَفْوَان بْن أُمَيَّةَ.
☼ وكان كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم مشهورًا مستفيضًا عند أصحابه ، بل متواترًا عندهم.
☼ يصفه خادمه أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، فيقول: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ (البخاري ومسلم).
☼ ويقول ابْنُ عُمَر َرضي الله عنه: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْجَدَ، وَلَا أَجْوَدَ، وَلَا أَشْجَعَ، وَلَا أَضْوَأَ وَأَوْضَأَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه الدارمي).
و(أنجَد): أسرع في النجدة، وهذا دليل على عظم شجاعته r. و(أوضأ): أجمل وأحسن.
☼ ويقول جَابِر بْن عَبْدِ الله رضي الله عنه: مَا سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ: لَا (البخاري ومسلم).
وكان لا يردُّ طالب حاجة، حتى مع حاجته هو نفسه صلى الله عليه وسلم لها!!
☼ وكحِّل عينَيك -أيها القارئ- لترى موقفًا من مواقفه العظيمة في الكرم والبذل والجود، لا نظير له ـ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام!!
☼ عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ؛ قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا.
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ الله، اكْسُنِيهَا.
فَقَالَ: «نَعَمْ» فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي المَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ؛ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ!! قَالَ: إِنِّي والله، مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ؛ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ (البخاري).
و(البُرْد): رداء يلبس فوق الثياب، أو كساء مخطط.
☼ إذا كان هذا هو عطاءه صلى الله عليه وسلم حال عُسْرِه وحاجته؛ فكيف يكون عطاؤه حال اليسار؟!!
☼ فكان أسعدَ بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذمُّ البخلَ والإمساك.
☼ لو تحول جبل أُحُدٍ من الحجارة إلى الذهب ثم صار ملكًا له؛ ما سره ذلك حتى ينفقه في سبيل الله!! يقول أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ المَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ»؛ فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلا شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، إِلا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ الله هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ-» ثُمَّ مَشَى، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا- عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ...» (البخاري ومسلم).
و(الحرّة): كل أرض ذات حجارة سود.
☼ وتلك حقيقة سجَّلها أصحابُه بعيدة عن التزيد والمبالغة؛ فقد جاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد، ولم يدَّخِر منها درهمًا ولا دينارًا ولا قطعة.
☼ ولما جاءه مَالُ الْبَحْرَيْنِ، وكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ»؛ إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَعْطِنِي؛ إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. قَالَ: «خُذْ».
فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: أْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ. قَالَ: «لَا». قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: «لَا».
فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَرْفَعْهُ، فَقَالَ: فَمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ. قَالَ: «لَا». قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: «لَا».
فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ!! فَمَا قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ (البخاري ومسلم) (1).
☼ ويجمع الغنائم ويوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئًا، وأعطى غنمًا بين جبلين (مسلم).
☼ ولم يكن صلى الله عليه وسلم ينتظر حتى يأتي سائل ليعطيه؛ بل كان يبتدئ بالنوال قبل السؤال، كلما وجد عنده المال، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يتضايق من بقاء المال عنده إذا لم يتهيأ له إنفاقه!!
☼ فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاهِمُ الْوَجْهِ. قَالَتْ: فَحَسِبْتُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَجَعٍ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، مَا لَكَ، سَاهِمُ الْوَجْهِ؟! قَالَ: «مِنْ أَجْلِ الدَّنَانِيرِ السَّبْعَةِ، الَّتِي أَتَتْنَا أَمْسِ، أَمْسَيْنَا ولم نَقْسِمْها، وَهِيَ فِي خُصْمِ الْفِرَاشِ» (أخرجه أحمد والبيهقي)!!.
و(ساهم): أي من أثر التفكير والهمِّ. و(خُصْم): طرف الثوب.
☼ وعن جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ
المقال السابق
المقال التالى