من أسباب النجاح تطوير الاستراتيجيات، الإستراتيجية تعني مجموعة الإجراءات والقرارات التي يتبعها الفرد أو المنظمة أو الدولة للوصول إلى هدف معين وتحقيق رؤيتها، في نتيجة لبحث عن الشركات التي تستمر في نجاحها وبقاءها بعد مائة عام من عمرها، وجد شركتين من كل مائة، أي 2% فقط من الشركات الناجحة تحافظ على وجودها، ونجاحها أيضا، أما السبب فلم يكن غريبا، ولا مستغربا أيضا، إنه التطوير، نفس السبب الذي يؤدي لنجاحها هو الذي يؤدي انهيارها، مديروها يعتقدون أن سبب نجاحهم بالأمس سيظل سبب نجاحهم على الدوام، هم يفهمون هذا، لذا يتمسكون بأسلوبهم القديم في الإدارة دون تغيير، فتنهار الشركة، تفشل ثم تندثر، الشركات الناجحة تطور إستراتيجيتها، تغيرها من وقت لأخر حسب حاجتها، حسب السوق والمنافسين والمنتجات والعوامل المحيطة.
القانون نفسه ينطبق على الأفراد، فالشركات تمر في دورة حياة قريبة لدورات حياة الأمم والشعوب، و الأفراد أيضا. النبي كان لديه طريقة متطورة للغاية في تطوير استراتيجياته، ولو ظل يدعو قومه في مكة كما حدث لنوح عليه السلام لما أمن معه في النهاية إلا قليل، فقد دعا النبي قومه سرا، حتى إذا استنفذ هذا الأسلوب غرضه، كان قد أمن معه الضعفاء من مكة، وبعضا من المقربين أيضا، أذن الله له أن ينشر دعوته، ويدعو أهل مكة، فجمعهم ودعاهم، بدأت قبائل قريش تصب عليه العذاب، استنفذت تلك المرحلة وقتها، ففكر لنبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يستطيع أن يفعل في مكة أكثر مما فعل، لذا خرج إلى الطائف، قابل الرفض بأشد مما كان في مكة، لكنه لم يتوقف، طور إستراتيجيته حسب سير الأحداث، قرر بدلا من أن يخرج من مكة ويعاني ما عاناه من أهل الطائف أن يلتقي بالوفود في مكة أثناء موسم الحج، فالعرب كلهم يتوافدون إليها، هي فرصة إذن أفضل له من فرصة الخروج إلى المدن، طالما أن تلك الوفود بزعمائها تأتي لمكة، كان يقابلهم ويعرض عليهم رسالته صلى الله عليه وسلم، تفاوض مع الكثيرين منهم، و لم تقبل القبائل أو تتساهل في شروطها مع النبي، الرسول كان أكثر ذكاء، فلم يتنازل أيضا وكان يرفض عروضهم، لم تجعله الحاجة لإنجاح الدعوة متسرعا في قبول الشروط التي تعرض عليه، كان الموقف عصيب، وقد سمعت قبائل العرب كلها بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل مكة يطلقون عليه ألفاظ الكذب والسحر، وقد أبطنوا له النية بالشر حتى أن عمه أبا طالب خشى على ابن أخيه منهم وتعوذ بحرم مكة منهم، وأنشد قصيدتـه التي قال في أولها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهمُ * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنّة * يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه * لدي حيث يقضي حلفه كل نافل
تخيلت نفسي في موقف النبي، لو كنت مكانه لقبلت بأول عرض من أول قبيلة، المهم أن أفر من مكة خوفا على نفسي وعلى الدعوة، لم يفعل النبي هذا، اقرأ ما كتبه ابن حبان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، إنه نموذج يحتاج للتأني في قراءته، لكي نفهم ما فعله صلى الله عليه وسلم:
عن على رضى الله عنه قال: لما أمر الله و رسوله صلى الله عليه و سلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج و أنا معه و أبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم و قال: ممن القوم ؟ قالوا: من ربيعة، قال: و أي ربيعة أنتم ؟ أمن هامتها أم من لهازمها ؟ فقالوا: لا، بل من هامتها العظمى، قال أبو بكر: و أي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال أبو بكر: فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف ؟ قالوا: لا، قال فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء و منتهى الأحياء ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار و مانع الجار ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك سالبها أنفسها ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا: لا، قال أبو بكر: فلستم إذاً ذهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال: على سائلنا أن نسأله، يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك و لم نكتمك شيئاً فممن الرجل ؟ فقال أبو بكر: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ، أهل الشرف و الرئاسة، فمن أي القرشيين أنت ؟ قال: من ولد تيم بن مرة، قال: أمكنت و الله الرامي من صفاء الثغرة! فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعاً ؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه و رجال مكة وسنون عجاف ؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال: لا، قال: فمن أهل الندوة أنت ؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء الداجية ؟ قال: لا، قال: فمن أهل السقاية ؟ قال: لا، و اجتذب أبو بكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال الغلام: صادف درء السيل درئاً يدفعه يهيضه حيناً و حينا يصدعه، أما و الله لقد ثبت! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم: فقال علي: فقلت: يا أبا بكر! لقد وقعت من الإعرابي على باقعة! فقال لي: أجل يا أبا الحسن! ما من طامة إلا و فوقها طامة، و البلاء موكل بالمنطق، قال علي: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة و الوقار، فتقدم أبو بكر و كان مقدماً في كل خير فسلم و قال: ممن القوم ؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله! ما وراء هذا القوم غر، هؤلاء غرر قومهم، و فيهم مفروق بن عمرو و هانئ بن قصيبة و المثنى بن حارثة و النعمان بن شريك،
و كان مفروق بن عمرو و قد غلبهم جمالاً و لساناً، و كان له غديرتان تسقطان على تربيته، و كان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، فقال أبو بكر كيف العدد فيكم ؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، و لن يغلب ألف من قلة! فقال أبو بكر: و كيف المنعة فيكم ؟ قال مفروق علينا الجهد و لكل قوم جد، قال أبو بكر: كيف الحرب بينكم و بين عدوكم ؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، و إنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، و إنا لنؤثر الجياد على الأولاد، و السلاح على اللقاح، و النصر من عند الله، يديلنا مرة و يديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش! قال أبو بكر: و قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فها هو ذا! قال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، قال: فإلى م تدعو يا أخا قريش! قال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أني رسول الله، و أن تؤوني و تنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله فكذبت رسله و استغنت بالباطل عن الحق، و الله هو الغني الحميد. فقال مفروق بن عمرو: إلى ما تدعونا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية، قال مفروق و إلى م تدعو يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية فقال مفروق: دعوت و الله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و كأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: و هذا هانئ بن قبيصة شيخنا و صاحب ديننا! فقال: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! و إني أرى إن تركنا ديننا و اتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا زلة في الرأي و قلة فكر في العواقب، و إنما تكون الزلة مع العجلة، و من ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً و لكن ترجع و نرجع و تنظر و ننظر، و كأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: و هذا المثنى بن حارثة شيخنا و صاحب حربنا! فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! و الجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا و اتباعنا إياك على دينك و إنما نزلنا بين ضرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ما هاتان الضرتان ؟ قال: أنهار كسرى و مياه العرب، و إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثاً و لا نؤوي محدثاً، و إني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك و ننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، و إن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم و ديارهم و أموالهم، و يفرشكم نساءهم، أتسبحون الله و تقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم! نعم، قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم قابضاً على يد أبي بكر و هو يقول: يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض. قال أبو حاتم: إن الله جل و علا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعرض على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وحده، و أن لا يشركوا به شيئاً، و ينصروه و يصدقوه، فكان يمر على مجالس العرب و منازلهم، فإذا رأى قوماً وقف عليهم و قال: إني رسول الله إليكم! يأمركم أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئاً، و تصدقوني، و خلفه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب عمه يقول: يا قوم لا تقبلوا منه، فإنه كذاب ـ حتى أتى كندة في منازلهم فعرض عليهم نفسه و دعاهم إلى الله فأبوا أن يستجيبوا له، ثم أتى كلباً في منازلهم فكلم بطناً منهم يقال له بنو عبد الله، فجعل يدعوهم حتى أنه ليقول لهم: يا بني عبد الله! إن الله قد أحسن اسم أبيكم، إني رسوله فاتبعوني حتى أنفذ أمره، فلم يقبلوا منه، ثم أتى بني حنيفة في منازلهم فردوا عليه ما كلمهم به، و لم يكن من قبائل العرب أعنف رداً عليه منهم، ثم أتى بني عامر بن صعصعة في منازلهم فدعاهم إلى الله، فقال قائل منهم: إن اتبعناك و صدقناك فنصرك الله ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم، الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقالوا: أنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر في غيرنا! لا حاجة لنا في هذا من أمرك([1]).
من القراءة المتأنية للنص يمكننا أن نتعرف على بعض من خصائص النجاح:
- أولا: قد يفهم البعض أن كل ما فعله النبي لم يكن سوى مجرد فشل، فهو صلى الله عليه وسلم لم يتوصل إلى أي اتفاق من أي نوع من أي من القبائل، كما قلت سابقا، إنها مقدمات النجاح، وتباشيره، النجاح لا يأتي من المرة الأولى، كان عليه أن يعمل ولا يتعجل النتائج
- ثانيا: أن النبي اصطحب معه أبا بكر وعليا رضى الله عنهما، ومن الحوار تفهم أنا أبا بكر كان يقدم النبي للقوم بعد تعرفه عليهم، كما نفهم من النص فإنه رضى الله عنه كان خبيرا بالقبائل، أنسابهم وتاريخهم، والتعرف إلى الناس أولى درجات النجاح، أحفظ أسمائهم واستخدمها في الحوار، ستتعجب للنتيجة، إنها تقربك منهم، تشعرهم بأنك تهتم بهم. كان أبو بكر أيضا يمثل جيلا غير جيل علي رضى الله عنه الذي كان يافعا، هذا يمكن النبي مع الحوار مع رجال من أعمار مختلفة، في اصطحابهما تعزيز للنبي أيضا فالجماعة التي تخاطب جماعة قد تكون أقدر على الحوار من الجماعة التي تخاطب فردا.
- أن النبي ابتسم عندما حاور أبا بكر أحد الشباب عن نسب قبيلة ادعوا أنهم من ذهل الأكبر، فظل أبا بكر يسأله متتبعا نسبهم حتى أثبت لهم أنهم من ذهل الأصغر وليس الأكبر! فرد عليه الفتى يسأل أبا بكر عن نسبه حتى أثبت له أنه ليس من أفضل قريش فتبسم النبي، هذا يعني أن في الأمر فسحة رغم ما كان يعانيه من الضغوط والتهديد بالقتل وجدية الدعوة والإيمان بالله وقضية نقل الناس من الكفر، لكي تنجح لا تضغط نفسك والآخرين، فى الأمر فسحة، روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، قد تأخذ بالابتسامة ما لا يمكن أخذه بالقوة.
- أن الرسول حاور بعض عقلاء وزعماء شيبان بن ثعلبة على الحدود الفاصلة بين جزيرة العرب وحدود كسرى، أعجبهم القول، ولم يتعجلوا الدخول فيه، ندم بعضهم فيما بعد ودخلوا في الإسلام وحسن اسلامهم وانضم منهم عدد كبير لفتوحات العراق مع جيوش المسلمين، ومع وعد الرسول لهم صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد كسرى وقيصر وهى إغراءات عظيمة للغاية لكنهم لم ينثنوا عن التفكير في الأمر ففيه مخاطرة كبرى حيث أنهم واقعون على الحدود ويحمون حدود كسرى من غارات العرب ويخضعون العرب لنفوذ كسرى، وضعهم دقيق، لم يضغط عليهم النبي للقبول! بل أثنى على صراحتهم في الحوار. الطرف الأخر اذن قد يكون لديه فضيلة، حتى وان كان كافرا، اعترف للناس بفضائلهم تنال إعجابهم وحبهم.
- ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة الذين طلبوا منه أن يؤول الملك لهم من بعده، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعرف قيمة الدعوة التي يحملها، ويريد الحصول لها على أفضل شروط في التفاوض، لم يتعجل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رغم المأزق الذي كان يواجهه، ولم يقابلهم بعنف ولا كره من الكفر الذي هم عليه، بل كان يثني على الحق الذي يحملون بعضا منه! فأي حكمة وأناة كان يحملها، وأي رجاحة عقل في التفاوض وسبر غور نفوس الناس في عرضه لرسالته صلى الله عليه وسلم وتفاوضه معهم
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعب، ولم ييأس، فقد ردت عليه بعض القبائل ردا قاسيا، استمر على عرض نفسه على القبائل رغم الرفض، ورغم القسوة والعناد والسب علانية أمام القبائل وأمام صاحبيه، لو تعرضت أنت لما تعرض له كيف تتخيل نفسك في هذا الموقف، وكيف سترد وماذا ستفعل؟ كان مصمما، لديه العزيمة والإيمان بما يملك وما يفعل وما يقول. لم يرد الإساءة بمثلها صلى الله عليه وسلم، لم يشعر بالإحراج والخجل، ولا الإهانة أيضا، بل مضى في سبيله يحمل نفس العزم فافعل مثله.
- أن النبي كان يستهدف الوفود، زعماء القبائل، ومع هذا لم يهمل الأفراد، كان حريصا على الناس، كل الناس، حتى أن يهوديا عرف النبي بمرض ابنه فزاره، وأمر النبي الغلام بأن يشهد أنه لا إله إلا الله وأنه رسول الله، نظر الغلام لأبيه فأمره أن يطيع النبي، نطق الغلام الشهادة ثم مات، فقال النبي الحمد لله الذي أنقذه من النار، لا تستهن بأحد، كن رحيما حتى مع المخالفين لك ربما يكون مؤيدا لك يوما، أو سببا في نجاحك، وربما تصنع به معروف يضاف إلى حسناتك، لا تقلل من شأن أحد، فقد سمع النبي للسويد بن صامت فتصدى له ودعاه على الإسلام ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك ؟ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه ؛ فقال له: إن هذا لكلام حسن (لم يقلل النبي مما يحمله الرجل من حكمة لقمان المصري بل استحسنه، افعل أنت هذا ولا تقلل من شأن الآخرين لتثبت أنك الأفضل)، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم([2]).
- قد تأتيك الفرصة في عمرك مرة، لا تعود بعدها، كما أتت هؤلاء القوم، أتاهم النبي بنفسه فردوه، و رفضوا دعوته، أو ردوا عليه بقسوة، أمنح عقلك دائما فرصة للتفكير، لا تتعجل فقد تكون فرصة عمرك ثم تتسرب من بين يديك فتندم، هم ندموا، كانت لهم فرصة في تحقيق السبق بالإيمان، والنجاح، أن يكونوا أصحاب النبي، أن يلحق بهم شرف بناء الحضارة وشرف نشر الإسلام، لا تتعجل فتندم، فكر جيدا الفرصة تأتي مرة، ثم تذهب فلا تعود، بعضنا يزهد فيما يزهد فيه الناس، هكذا فعلت بعض القبائل، فكر جيدا، فليس كل ما يزهد فيه الآخرون سئ، وليس كل ما يقبلون عليه خير.
- في القصة حكمة أخرى، أن الرسول أتاهم بدين جديد، متميز، ذو مبادئ عادلة وحكيمة، التميز كان واضحا بين الإسلام وغيره، في هذا التميز كان النجاح، ابحث عن الفرص المتميزة عن الموجودة لدى الآخرين، فإن أكبر الشركات في العالم ذات أفكار متميزة مثل مايكروسوفت، بيبسي، دي اتش ال، مطاعم الدجاج ذات الخلطة مثل كنتاكي، كلها أفكار جديدة صعدت بشركاتهم إلى الأعلى، الإسلام أيضا كذلك.
- هل تظن أن كل ما يأتي من عدوك شرا؟ قصة الرسول مع القبائل تقول العكس، يقول ابن حبان([3]): و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحضر الموسم فيعرض نفسه على من حضر من العرب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة و إذا رهط منهم رموا الجمرة، فاعترضهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال: ممن أنتم ؟ قالوا: من الخزرج، قال: أمن موالي يهود ؟ قالوا: نعم، فكلمهم بالذي بعثه الله به، فقال بعضهم لبعض: يا قوم! إن هذا الذي كانت اليهود يدعوننا به أن يخرج في آخر الزمان، و كانت اليهود إذا كان بينهم شيء قالوا: إنما ننتظر نبياً يبعث الآن يقتلكم قتل عاد و ثمود فنتبعه و نظهر عليكم معه، ثم قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم: نرجع إلى قومنا و نخبرهم بالذي كلمتنا به، فما أرغبنا فيك! إنا قد تركنا قومنا على خلاف فيما بينهم، لا نعلم حياً من العرب بينهم من العداوة ما بينهم، و سنرجع إليهم بالذي سمعنا منك، لعل الله يقبل بقلوبهم و يصلح بك ذات بينهم و يؤلف بين قلوبهم و أن يجتمعوا على أمرك ! فإن يجتمعوا على أمر واحد فلا رجل أعز منك، ثم قدموا إلى المدينة فأفشوا ذلك فيهم، المعنى أن أهل المدينة قبلوا الدعوة على الفور، دون كثير تفكير،كان لديهم علم مسبق من اليهود بأن نبيا أوشك على الظهور، فلما ظهر وعرض نفسه عليهم قبلوه،كانت فرصة لهم واغتنموها، هكذا تؤخذ الفرص، فما جاء من اليهود لم يكن كله شرا للنبي ودعوته رغم كرههم له، ولنا أيضا، لكن كان فيه خيرا بسرعة قبول شباب المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم، لا تشك بأن عدوك قد يأتي منه الخير، العدو هو من يدفعك للإمام، من يشحذ عزيمتك، من يجعلك تبحث عن كل الأسلحة المتاحة لك، فتخرجها، تجهزها، ثم تستخدمها، الكثيرون اعترفوا بفضل عدوهم عليهم، والمثل يقول: إنسان بلا عدو، إنسان بلا قيمه.
وكانت تلك الإستراتيجية الأخيرة التي تبناها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث نجح بعد هذا عندما قابل وفد المدينة، طور إستراتيجيتك حتى تستنفذها، ابحث عن الأفضل، عن الأحدث، حتى تنجح.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن حبان، السيرة النبوية، 35
[2] ابن هشام، السيرة النبوية
[3] ابن حبان، السيرة النبوية