الحديث التاسع عشر: ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال ما نقص مال عبد من صدقة
عن أبي كبشة الأنماري -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء أخرجه أحمد والترمذي.
هذا حديث عظيم جمع خصالا من الخير كثيرة، قوله: ثلاث أقسم عليهن وكذا قوله: وأحدثكم حديثا فاحفظوه فيه أن على دعاة الخير في أثناء تبليغ العلم والنصح أن يشوقوا السامعين، وأن يجعلوا السامعين يشتاقون ويتنبهون إلى ما سيقال، فقوله عليه الصلاة والسلام: ثلاث أقسم عليهن لأهميتهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه كل هذه الأساليب تجعل السامعين يعون بقلوبهم قبل آذانهم.
ولذا تقدم أن من أساليب العرب وضع مقدمات في الكلام لتشويق السامعين، قالوا: وفي القرآن الكريم الاستفهام في أول السور أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فهذا كأنه يقول ماذا فعل؟ ما فعله؟ من هو؟ ما صنيعته؟ ما جزاؤه؟ ما وزره؟ ففي قوله عليه الصلاة والسلام: ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه فيه أن على دعاة الخير في المواضع أو في الكلام المهم في المسائل الهامة أن يعنوا بإيضاح الأسلوب حتى لا يكون غامضا على الناس، وكلما قُسِّم الكلام كلما كان أهون وأوضح؛ ولذا قال ابن القيم: وهل العلم إلا السبر والتقسيم.
وقوله: ما نقص مال عبد من صدقة فيه بركة الزكاة والصدقة، الصدقة لا تنقص المال بل تزيده حسا ومعنى، في قوله -عليه الصلاة والسلام- في الخبر الآخر ما نقصت صدقة من مال والزكاة تزكي المال تطهره وتنميه.
أما ما ورد من الزيادة في الحديث: ما نقصت صدقة من مال بل، بل ماذا؟ بل تزده، فهذه الزيادة لا تصح لا سندا ولا متنا، فلم تثبت سندا، بل لم أقف على راو لها بعد البحث، ومتنا لا تصح لغة، لأنه لو كانت ثابتة لقال بل تزيده، وإن كان هناك تقدير.
وقوله: عبد ما نقص مال عبد، فيه استشعار معنى التعبد في أثناء عمل الطاعات، وهذا كالذي قبله، الذي قبله: اجعلها آخر صلاة تصليها. الحديث الذي قبله، أول حديث، وهنا استشعار معنى التعبد لله في أداء العبادة يزيد العبد خضوعا وإخباتا لله عز وجل.
وقوله: ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا فيه فضل الصبر، وطالب العلم، أولى الناس، وداعي الخير أولى الناس بهذه المعالم العظيمة، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا إذن الصبر وبخاصة إذا علمت أن ترك، ليس لك وسيلة إلى طلب الحق، أو علمت أن بحثك عن حقك سيؤدي بك إلى مصاعب أخرى، فهنا الصبر، والاحتساب بل في ترك الانتصار للنفس منقبة عظيمة، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا ينتقم لنفسه في شيء قط حتى تنتهك حرمات الله تعالى بعض الناس يستشيط غضبا، ويخرج عن الحد المشروع في الانتقام لنفسه، نعم لك أن تنتصر لنفسك وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ لكن وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ فكلما ترك العبد الأمر لله، زاده الله بصبره واحتسابه عزا.
وفيه أن العاقبة للمتقين، أنت لما تركت الانتقام وصبرت، هذا من تقوى الله عز وجل وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ومن لم يجرب كما يقول بعض أهل العلم:
ومن لم يجرب ليس يعرف قدره
فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه
وقوله: ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر فيه أن سؤال الناس والتذلل من أسباب الضعف الحسي والمعنوي، ومن سقوط قدر السائل عند الناس، وبخاصة إذا كان داعية للخير أو طالب علم، وعنده قدرة على التعفف، والنتيجة أن يفتح عليك باب فقر، لكن من تعفف إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .
وقوله: إنما الدنيا لأربعة نفر هذا كالذي تقدم في أول الحديث، كلما قُسِّم الكلام إذا كان طويلا أو إذا كان فيه أنواع وتقاسيم، أو أنواع وجمل متعددة، كلما جمعت النظائر كلما كان أسهل، وقد كان كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، أبلغ أسلوب وأسهل معاني، وقوله: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعمل لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل فيه تفاوت العباد في منازلهم، والناس يتفاوتون، كما في الجنة إن أهل الجنة يتراءون منازلهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في أفق السماء فالناس يتفاضلون في الدنيا والآخرة، وفيه أن بركة المال فيه أن المال لا تكون له بركة إلا إذا أنفق بشرطين: بالعلم بما ينفق من أبواب الخير، وبالإخلاص، وهذان شرطا العبادة: الإخلاص لله، وأن يكون العمل على بصيرة وعلى علم.
وفيه أن صلة الرحم من أعظم القربات، وأن من أسباب تقوية صلة الرحم العون المادي، من أقوى الأسباب، قد يكون قريبك فقيرا فإعطاؤه مما أعطاك الله مما يزيد الأواصر، وطلبة العلم الفقراء هم أولى الناس بالعون، إذا كانوا غير قادرين لأن نفعهم يتعدى، وفيه أن على دعاة الخير أن يكونوا أسبق الناس في هذا الأمر، أعني في صلة الرحم، ورحم العلم، أبلغ من رحم القرابة، وفيه في قوله: وعبد رزقه الله تعالى علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية فضل العلم على صاحبه، قد ينفع الله بصاحب العلم أكثر مما ينفع بصاحب المال، لأن العلم غذاء للقلوب والأرواح، والمال غذاء للأبدان، وغذاء القلوب أعظم من غذاء البطون، وفيه أيضا في الحديث في آخره لما قال: فهو بنيته فأجرهما سواء في أصحاب الخير، ووزرهما سواء في أصحاب الشر فيه دليل، أن تمني فعل الخير يؤجر عليه صاحبه، كما أن تمني فعل الشر يؤزر عليه صاحبه، لو أن عندي مالا لطبعت كتابا في السنة، مأجور، لو أن عنده مالا لطبع كتابا في البدعة، مأزور، وفيه في الجملة كمال عدل الله وحكمته، وأنه يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربنا أحدا؟
وفي الحديث أيضا أكرر أن طالب العلم على خير ولو كان فقيرا، وأن من أنفق على طالب العلم فهو على خير ولو كان ليس عنده علم، أحيانا يكون العامي أكثر أجرا من طالب العلم إذا دعم طالب العلم، وكفه عما في أيدي الناس، وأغناه بعد الله -جل وعلا- عن السؤال، روى الترمذي أن رجلا قال يا رسول الله إن لي أخا يطلب العلم وأنا أنفق عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك ترزق به