الحديث الثامن عشر: يا معاذ أفتّان أنت ثلاثا اقرأ: والشمس وضحاها
عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- أن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ أفتّان أنت، ثلاثا، اقرأ: والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، ونحوها أخرجه الشيخان.
قوله: "كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم" فيه أن للإمام أن يستكثر من الخير ما لم يشق على جماعته بتأخر؛ لأن بعض دعاة الخير قد يكون إماما فيضيع مسئولية الإمامة، أو يكون مؤذنا، فيضيع مسئولية المئذنة أو الإمامة بزعم تحصيل العلم والخير، هذا ليس على إطلاقه، أنت مؤتمن وتأخذ رزقا من بيت المال، حتى ولو كنت متطوعا، إذا كان سيترتب على ذلك إهمال لجماعة المسجد، فإما أن تتنحى أو أن توكل من يقوم بالمقام بدلك.
فهنا معاذ -رضي الله تعالى عنه- يعلم من جماعته عدم الضجر من التأخير وإلا لو كان، لرفعوا ذلك إلى النبي عليه السلام، كما رفع الغلام الشاب الأنصاري.
وفي قوله: فقرأ بهم البقرة فيه أن للإمام أن يراعي حال المأمومين في أثناء الصلاة، السابقة قبل الصلاة، في التأخر، وهذه في أثناء الصلاة، ما لم يشق يطيل القراءة، لكن إذا كان فيه مشقة فلا، ومعاذ يصلي مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحرم، ثم يأتي إلى قباء على الراحلة يحتاج إلى وقت قرابة نصف أو أكثر أو ساعة، ثم يقرأ بهم البقرة، انظر إلى همة معاذ -رضي الله تعالى عنه- ونشاطه، ولكن مع هذا نهاه النبي عليه الصلاة والسلام، وغضب أشد الغضب؛ لأن ذلك التأخر وتلك الإطالة أثرت ونفرت.
وقوله: فتجوز رجل فيه مسألة فقهية: جواز انفصال المأموم عن الإمام إذا دعت الحاجة، وقوله: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فيه جواز طلب دفع المظلمة لأن الصحابي الغلام أصبح الآن في موقف خصومة، ومن إنصافه -رضي الله تعالى عنه- أنه ذهب إلى الحكم المرتضى، إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ، فتجوزت، فزعم أني منافق فيه الأمانة في النقل، نَقَلَ ما له وما عليه، ذكر أنه تجوز في الصلاة، وذكر عذره، وذكر ما قال معاذ، فنقل الخبر كله. ونستفيد أن على دعاة الخير سواء كان حكما أو خصما أن يكون أمينا فيما ينقل وفيما يقول، إن كنت خصما فانقل بأمانة وصدق، وإن كنت حكما فقل بصدق وأمانة.
بعض الناس إذا أخطأ عليه أحد العامة، أو أخطأ عليه قريب له أو أكبر أو أصغر أتى إليك يتشكى ويتباكى، وهذا من الخيانة في النقل، ومن ضعف الإيمان، والأولى والأوجب بل الأوجب أن تنقل ما لك وما عليك، قوله: يا معاذ أفتان أنت فيه تغليظ المعلم العتب على تلميذه، وبخاصة إذا كان الضرر متعديا. هنا نستفيد أن خطأ طالب العلم، وأن إصراره على الخطأ -داعية الخير- أنه يترتب على إصراره أو على تنفيره ضرر متعدي، فليحذر طالب العلم من أن يكون منفرا، ولهذا تقدم "أحسنهم أخلاقا" لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
وأيضا أعيد فأقول: على من يتولى إمامة المسجد أو المئذنة في المسجد أن يتقي الله في هذه الأمانة، وأنَّ تركها بدعوى التفرغ للعلم إن ترتب على ذلك إقامة من يقوم مقامك فالحمد لله، أما تضييع الأمانة وترك الناس يتضايقون ويتلاومون بسبب إضاعتك لما حملك الله فهذا من الإثم العظيم،
المقال السابق
المقال التالى