عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

الحديث السادس عشر: صل صلاة مودع، فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك


بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف حفظه الله تعالى:

عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال:  أتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، حدثني بحديث واجعله موجزا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صل صلاة مودع فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأس بما في أيدي الناس تكن غنيا، وإياك وما يعتذر منه  أخرجه الطبراني في الكبير.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، أما بعد..

هذا الحديث أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط، وأظنه في الكبير كذلك، وإسناده فيه مقال، إلا أن له طرقا كثيرة، يرتقي بها الحديث عند بعض أهل العلم إلى درجة الحسن، وهذا الحديث فيه أولا تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- لطلب ذلك السائل الذي اشترط في سؤاله شرطا، "واجعله موجزا" إما لأن الصحابي علم من نفسه أن الكلام إذا كان طويلا قد يعجز عن حفظه وفهمه، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوجز له في الحديث، وهذه من السياسة الدعوية أن يراعي المسئول والداعي حال المدعوين وحال السائلين، فقد يكون الكلام علميا، لكن فيه طول، فتذهب فائدته على السائل أو السامع، ولكن إذا راعى المسئول والداعي حال السائل، ففي ذلك خير للمسئول والسائل؛ خير للمسئول لأنه قد أدى العلم وتحقق النفع والأجر، وخير للسائل لأنه قد حصل ما يريد.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن لا يجد في نفسه حرجا أو ضيقا إذا اشترط السائل في سؤاله شرطا، السائل يرى أن ذلك من مصلحته.

أيضا، قد تكون الحاجة داعية إلى أن يزيد المسئول في جواب السؤال للمصلحة، "باب من سئل فأجاب السائلَ بأكثر مما سئل"  يا رسول الله أنتوضأ من ماء البحر؟  فقط السؤال عن الوضوء، فقال:  هو الطهور ماؤه، الحل ميتته  واكتبوا عندكم هذه الفائدة، "حال المسئول في جوابه مع السائل" أنتم طلبة علم وتُسألون، وقبل ذكر الأحوال لا بد أن يكون المسئول على علم من جواب السؤال:

الحال الأولى: أن تجيب السائل على قدر سؤاله  يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ولو استزدته لزادني  .

الحال الثانية: أن يجيب المسئول السائل بأكثر مما سأل إذا كان هناك مصلحة، ومثاله ما تقدم  أنتوضأ من ماء البحر، قال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته  ومثال آخر:  يا رسول الله ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس السراويل ولا البرانس  إلى آخر الحديث.

الحال الثالثة: الإعراض عن السائل إذا سأل في غير وقت سؤال  كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتكلم فقال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض عنه، فلا ندري أسمعه، أم لم يسمعه، فلما فرغ قال: أين أراه السائل عن الساعة  دل على ماذا؟ أنه سمعه.

الحال الرابعة: أن يجعل المسئول السائل مسئولا، كيف هذا؟ أن يجعل المسئول السائل مسئولا، تقلب السؤال عليه، بخاصة إذا كان السؤال يتعلق في رد شبهة  جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود  قد الرجل الأسود يأتي بطفل أبيض والعكس، وهذه أمور معلومة ومشاهدة  قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود  السائل في سؤاله هذا قد يكون في نفسه شيء وحرج، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يزيل شكه وحرجه، وأن يجيب على سؤاله، كيف ذلك؟ استعمل معه طريقة يقنع نفسه بنفسه، فقال عليه الصلاة والسلام:  ألك إبل؟  من السائل الآن؟ النبي عليه الصلاة والسلام، من المجيب؟ المسئول. السائل الأول الصحابي  ألك إبل؟ قال: نعم  السؤال الثاني:  ما ألوانها؟ قال: دهم  السؤال الثالث:  هل فيها من أورق؟ قال: نعم  السؤال الرابع:  أنى ذلك؟ قال: يا رسول الله لعله نزعه عرق  هذا البعير خالف السلالة في لونه، فقال: أنى ذلك له؟ قال لعله نزعه عرق، فقال عليه الصلاة والسلام:  لعل غلامك هذا نزعه عرق  هل زال شك الصحابي وحرجه؟ نعم.

مثال آخر:  جاءت امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟  تريد إما نعم أو لا، فقال لها عليه الصلاة والسلام:  أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: فدين الله أحق بالقضاء  .

مثال آخر، أو منهج آخر في الجواب عن السؤال، أن يكون الجواب بالفعل، ولكن هذا لا يكون إلا لمن له سلطة وقوة.

جاء رجل إلى عمر، أو بلغ عمر خبر أن صبيغا يثير تساؤلات في متشابه القرآن الكريم، ويورد أسئلة يبحث عن جواب أو يريد بها شكا وإشكالا وتلبيسا، فلما بلغ عمر أمره أتى به، قال: أنت صبيغ، قال: نعم، قال: أنت القائل كذا وكذا وكذا؟ قال: نعم، فضربه بماذا؟ بالدِّرة أو الدُّرة أو الدَّرة، ماذا يقال؟ أنا الآن أعطيتكم كيف يجيب السائل المسئول، وخالفتم منهجي ها الحين.

الدُّرة بالضم سُرة الذهب، والدَّرة قيل: در الحليب الشاة. والدِّرة بالكسر التي يحملها عمر، فضربه عمر بالدِّرة وقال: لا يؤاكل ولا يجالس، ولا يشارب، ولا يبتاع منه ولا يباع عليه، فمكث على فراشه شهرا، فلما تعافى أُتي به إلى عمر، فضربه مرة أخرى، فقال: لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس، فلما أفاق بعد شهر أتى به عمر، فضربه، فلما أفاق الرابعة قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي فأحسن قتلتي، وإن كنت تريد إقناعي فقد أذهب الله شيطاني، وهذه لا تكون إلا لمن له سلطان، وبخاصة مع أصحاب الشبهات والبدع المضللة.

قوله:  صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك  فيه أن استشعار حلول خاتمة العبد عند تلبسه بالعبادة يزيد العبد إخباتا ويقينا وإخلاصا "صل صلاة مودع" اجعل هذه الصلاة آخر صلاة تصليها، يحدثني بعض رجال الأمن يقول: قدمنا رجلا للقصاص، فكان يصلي قبل القصاص، يقول: فدعا وتضرع وألح على الله وخشع في صلاته ودعائه، فأحسب لحسن ظني بالله أن يقبل الله دعاءه؛ لأنه في حال يعلم أن هذه الصلاة آخر صلاة سيصليها.

فاستشعارك أن هذا الحج آخر حج تقوم به، أو أن هذا الشهر أو هذا اليوم آخر يوم تصومه، أو أن هذه القراءة آخر قراءة تقرؤها، أو أن تلك الصلاة آخر صلاة تصليها؛ لا شك أن الأمر يزيد عندك من حيث الاستشعار واستحضار معاني الآيات والخشوع في الدعاء وما يتبع ذلك.

وفيه أيضا أن استشعار واعتقاد مراقبة الإحسان في كل أحوال العبد تزيد العبد طاعة وإخباتا، "كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

الفائدة الثالثة: أن على دعاة الخير العناية بشأن العبادات عموما وبالصلاة خصوصا، فمحافظة داعية الخير على إقامة الصلاة في أوقاتها على السنة، بحد ذاتها دعوة فعلية وقدوة فعلية، ولذا كان السلف الصالح أئمة العلم يعنون بشأن الصلاة بخاصة عناية عظيمة، من حيث التبكير لها، والمحافظة على أدائها في أوقاتها، وعلى السنة، حتى قال بعضهم: إذا رأيت الرجل يفرط في تكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه. ومحمد بن سماعة يقول: لم تفتني جماعة منذ أسلمت، إلا مرة واحدة، كنت مشغولا بدفن أمي في قبرها، قل لي بربك الآن كم يفوت من الصلوات على طلبة العلم.

إذن قد يخف التثريب على العامة، إذا رأوا قدواتهم على هذا النمط، وقوله: "وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، فيه أن الاستغناء عما في أيدي الناس من أسباب قوة التوكل على الله عز وجل، "تعش غنيا"  أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ   مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ   وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ  استغن عما في أيدي الناس، لا تمد يدك إلى الناس إلا إذا بلغت الحاجة مبلغا، وعلمت أن الأمر قد أُغلق عليك، وأن هذا الأمر مشروع لك، فذاك شيء آخر، أما أن يتعود الإنسان مد يده إلى الناس، وبخاصة إذا كان من دعاة الخير، هذا قد يقلل قبول دعوته، والكلام هنا عن من يستطيع أن يتكسب أو يتعفف.

وقوله: "وإياك وما يعتذر منه" فيه حرص دعاة الخير على حفظ مروءتهم، إياك أن تعرض نفسك لعمل أو لقول قول تنتقد بعده.

ورد عن علي، ذكر النووي في كتاب بستان العارفين، قولا عن علي رضي الله تعالى عنه: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره. لا تفعل فعلا تكن محط النقد واللوم، والمراد بالفعل هنا ما لا يضر تركه، أما الحق فلا تنظر إلى أحد. وفيه أيضا حرص دعاة الخير على فهم مقاصد الشريعة متى تُفعَل الأمور، متى تُترَك، متى تقدم هذه المصلحة على تلك، مراعاة ترتيب المصالح، وتقديم الأكبر، مراعاة درء المفاسد، دفع الأكبر، مراعاة دعاة الخير، وحرصهم على فهم مقاصد الشريعة، ففي ذلك مصالح ثلاث:

سلوك منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته للناس، وتحبيب الخير إلى الناس، وتأليف الناس.

إذا كان الإنسان قدوة في تصرفاته، على بينة وبصيرة من أمره، أما إذا كان في كل ساقطة لاقطة، أقوال نشاذ، أفعال تخرم المروءة، دخول في كل شيء؛ فهذا يقلل دعوته ومن ثم ينفر الناس عنه،




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق