معالم الدولة الاسلامية الاولى
ومع وصول الرسول إلى المدينة عام 622 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الإسلامية الفتية ، هي مرحلة كانت ما بين عهدي الجاهلية والإسلام . وأخذت تتبلور فيها معالم الدولة الإسلامية الأولى ، المبنية على قاعدة الإخاء الإسلامى ما بين الأنصار ( الأوس والخزرج ) والمهاجرين المكيين وأسس الدستور الإسلامي الجديد الذي نظم العلاقات ما بين قوى المدينة ، المسلمين والقبائل التي لا تدين بالإسلام واليهود ، فكان التعايش بين مختلف الطوائف هو مدى هذا الدستور ، و دستور المدينة ، ضمن تنظيم العلاقات ما بين المسلمين من جهة ، وأصحاب المذاهب الأخرى من جهة أخرى ، في إطار من الحرية الدينية ، يقول المستشرق الروماني جيورجيو :
(( وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً ، كلها من رأي رسول الله . خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان . وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية ، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم ، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء . وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة ، أى عام 623م . ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده )) . 1
وحقق المجتمع الديني في ظل الدستور الجديد نقلة نوعية ، وثورة اجتماعية ، اذ غدت الأمة الإسلامية هي البديل العملي للعصبية القبلية ، والإخاء والمساواة عوضاً عن طبيعة العلاقات الاجتماعية الجائرة ... وأخذ بالسطوع نجم الرسول صلى الله عليه وسلم الذى أصبح عملياً الحاكم السياسي للمدينة ، فكان الداعية والنبى والحاكا والقائد العسكرى وأصبحت سيرة حياته تاريخاً للحركة الإسلامية .
عوامل انتشار الدعوة الاسلامية
كانت المدينة قبل الهجرة تعانى اضطرابات داخلية ، ومشاكل اقصادية وتمور داخلها تيارات سياسية وفكرية شتى ، ناهيك بما كانت تعيش من صراعات قبلية ، هذا ويتحدث الباحث الإنكليزي غلوب باشا عن واقعها السكانى وأحوالها في تلك المرحلة بقوله :
(( كانت المدينة مأهولة عندما هاجر اليها النبي بقبائل عدة ، منها العربية ومنها اليهودية. ( أرى من الأسهل التمييز بينها على هذا النحو ، و ان كان من يدعون باليود قد لا يخرجون عن كونهم عربأ تحولوا الى اليودية ) . وكان اليهود ينقسمون الى ثلاث قبائل تعمل اثتان منها في الزراعة و تعيش على زراعة النخيل والحبوب ، أما الثالثة فتضم فنيين يعملون في صياغة الذهب والفضة وصناعة الأسلحة .أما العرب فكانوا قبيلتين : الأوس والخزرج ، ولم تكن قد انقضت أربع سنوات على توقف الحرب بينهما ليحل محلها السلام ، وليصبح للقبيلتين ريئس واحد هو عبد الله بن أبي يتولى قيادتهم وزعامتهم معاً )) . 2
التفوق الروحي و الزمني للرسول
كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على انتشار الإسلام في يثرب ، ومكنت الرسول حين بلوغها إلى تحويلها قاعدة انطلاق لنشر الدعوة الإسلامية ، ومركزاً للدولة الإسلامية الأول مما أكسب الرسول التفوق الروحي والزمني ، ومنح الإسلام عزة ومنعة . يقول المستشرق الهولندي فلوتن يان ( 1807- 1879 ) صاحب الدراسات العديدة والجادة في كتابه : " الفصول ":
(( إن محمداً لم يلبث أن أصبح له تفوق روحي وزمني بعد سنين قلائل من الجهاد والاضطهاد ، كما يدل على ذلك غير آية من القرآن ، وذلك بتحول أهل المدينة إلى الإسلام بفضل ذلك النفوذ الذي كان يتمتع به الرسول . وغدا الإسلام دينا قويا ما لبث أن انتشر بين الشعوب عن طريق الوعد والوعيد )) . 3
_________________
1- ك. جيورجيو : نظرة جديدة في سيرة رسول الله ، ص 192.
2-جان باغوت غلوب : الفتوحات العربية الكبرى ، ص 83-84.
3-فلوتن يان : الفصول ، ص 103.
المقال السابق
المقال التالى