طبيعة محمل الروحية
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ذا طبيعة روحية عالية ، جم التفكير ، عميق التقوى ، حساسا بطبعه ، متديناً بفطرته ، فرضت عليه أحواله الحياتية الخاصة وأسفاره و تعرفه على حقائق الحياة وتفكره بشؤون الكون ، أن يكون مهيأً لحمل الرسالة . . . . يقول الباحث الإنكليزي المستشرق روم لاندو :
(( وفي أمكان المرء أن يتخيل ، في يسر ، ما استشعره الشاب الحساس من وحدة وانفراد ، والأثر الذي لاذ لا بد لذا الوضع أن يتركه في تكوينه العقلي . والواقع أن ما نزل عليه بعد من وحي لم يهبط في خواء vacuum ، بل هبط في جو من الاستبطان introspeetion المحتوم و التساؤل الروحي - وهو الجو الذي يلائم في العادة حياة غلام فقد أباه وأمه ، وعدم الأخوة والأخوات )) 1 .
والى جانب كونه رجل فكر وذا طبيعة روحية ، كان رجلاً عملياً واقعياً ، أدرك نواحي الفساد في مجتمع قبلي وثني ، فابتعد عنه وهداه التفكير إلى بلوغ الحقيقة الأزلية القائمة على فكرة الإله الواحد . . . يتابع ( روم لاندو ) ، قائلاً :
((كان محمد تقيأ بالفطرة ، وكان من غير ريب مهيأ لحمل رسالة الإصلاح التي تلقاها في رؤاه . وبالإضافة إلى طبيعته الروحية ، كان في جوهره رجلاً عملياً عرف مواطن الضعف ومواطن القوة في الخلق العربي ، وأدرك أن الإصلاحات الضروريه ينبغي أن تقدم إلى البدو الذين لا يعرفون انضباطاً والى المدينين الوثنيين ، في آن معاً ، على نحو تدريجي . وفي الوقت نفسه كان محمد يملك إيماناً لا يلين بفكرة الإله الواحد - وهى فكرة لم تكن جديدة كل الجدة في بلاد العرب - وعزماً راسخاً على استئصال كل أثر من آثار عبادة الأصنام التي كانت سائدة بين الوثنيين العرب)) 2 .
أما الباحث العسكري جان باغوت غلوب ، الذي عرف في البلاد العربية باسم غلوب باشا ، حيث كان رئيساً لاركان الجيش الأردني ، فقد كتب عن تحنث الرسول ، ونزول الوحي عليه في كتابه : « الفتوحات العربية الكبرى » ، بقوله :
(( واقترب عام 610 ميلادية ، وكان محمد قد بلغ الأربعين من عمره وازداد ميله إلى الوحدة والتأمل . وكان يهرب من طرقات مكة المحرقة المغبرة ، ويلجأ إلى كهوف الجبال القريبة من الوادي العتيق الذي تقبع فيه المدينة ليقض فيا أحياناً أياماً متوالية . وتسرح أفكار الرجل متأملاً في هذه القمم الجرداء الداكنة التي يراها من فتحات الكهوف ، والتي لا تظهر عليها نأمة حياة ، ولا تفصلها عن بعضها إلا شعاب عميقة ضيقة من الأخاديد والوديان الجافة ، و تعود فتتركز على فلسفة الحياة الأخرى التي كان قد سمع نتفاً عنها من اليهود والنصارى ، وعلى وجود اله واحد أحد قوي صمد عنده الجنة السرمدية والحياة السعيدة الأزلية ، يمنحها للمؤمنين من عباده ، وعنده جحيم بما فيما من عذاب لا نهاية له ينزله بالكفرة وغير الصالحين .
وكان يعود إلى بيته وقد أثقلته هذه الأفكار فيبوح بها إلى زوجته الوفية خديجة التي ما برح يجد عندها المستقر والمراح والحث والتشجيع وقد مزجت في رعايتها له بين حب الزوج وحنان الأم .
وألف محمد اللجوء إلى الغار في الجبال في فترات معينة من شهر رمضان طلباً للتأمل والتعبد والتفكير والتهجد . وبينما كان يتعبد في غار حراء حسب عادته إذ نزل عليه جبريل رأس الملائكة )) 3 .
الوحي في كتب الحديث والسيرة
لقد اهتمت المصادر الإسلامية من كتب الحديث أو السيرة بمسألة الوحي ، حين صاع الرسول محمدصلى الله عليه وسلمبالرسالة ، إذ كانت هذه الحادثة هي الانقلاب الخطير في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي في حياة العرب . . . إذ بدأت منذ ذلك اليوم مرحلة تاريخية جديدة ، مع الدعوة الإسلامية . . . ونجد هنا من المناسب أن نذكر أحدى روايات الحديث ، من رواية للسيدة عائشة أم المؤمنين عن بدء الوحي بقولها :
(( أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي : الرؤيا يا الصالحة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ، - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل آن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق - وفي رواية : حتى فجأة الحق - وهو في غار حراء ، فجاء الملك ، فقال : اقرأ ، قال : قلت : ما أنا بقاريْ ، قال : فأخذني فغطني ، حتى بلغ منى الجهد ، تم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقاريء ، قال : فأخذني فغطني ثانية حتى بلغ منى الجهد ، تم أرسلني ، فقال : اقرأ : فقلت : ما أنا بقاريْ ؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ، تم أرسلني ، فقال :" و اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم " ( 96/ 1-5 ) . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملونى ، زملونى ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له خديجة : كلا ، أبشر ، فو الله لا يخزيك الله أبدا ، أنك لتصل الرحم ، و تصدق الحديث ، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ، و تقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة ، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قص - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها- وكان امرءأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمى ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : « هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيما جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك » . فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وان يدركني يومك حياً أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وخر الوحي )) 4 .
الوحي صوت الحقيقة الأبدية
هذا ، وقد تناول عدد من المستشرقين قصية البعثة ونزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الصوت الذي سمعه في غار حراء كان حقاً هو صوت الحقيقة الأبدية التي أنزلها الله عليه عن طريق جبريل عليه السلام .
يقول الأب هنري لامنس :
(( هكذا كان محمد بحراء ، فكان ينشد الكون في تلك الجبال إلى كان يذهب يخلو بنفسه فما متأملا في السماء ذات الكواكب ، إلى ما كان في يسمعه من أعمق أعماق قلبه ، وهو الرجل الأمي الفطري الصادق ، و ذلك الصوت هو صوت الحقيقة الأبدية )) 5 .
ويتابع الأب هنرى لامنس ، قوله :
«لم يكن محمد ممن لم يعرف العالم الباطن ، نعم ، لم يكن متصوفاً بالمعنى المعروف ، إلا انه كان عن يرى أن الأمور التي في الغيب أعظم من الأمور التي تحت الحس ، المشهود أدنى درجة من المحجوب ، فالنظام الروحي في نظره هو الأهم وهو الوجود الحقيقي )) 6 .
بينما كتب المشتشرق اليوغسلافي الدكتور التر بتكين (1833~1907 ) في مؤلفه (الحياة تبدأ بالأربعين »، قائلاً :
((في أحدى ليال شهر رمضان بينما كان محمد نائماً في أحد كهوف حراء، عاد فتجلى عليه ذلك الشبح ، وفي يده قطعة من الحرير عليها كتابة ، وقال له ذلك الشخص: اقرأ أ، فأجابه : لست بقاريء ، فأعاد عيه القول ثانياً : اقرأ - اقرأ أ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق إلى آخر السروة فردد محمد هذه الكلمات ، وأحس بالنور قد أشرق عليه » 7 .
أما المستشرق الروسي ماكس مايرهوف ( 1815 _ 1887 ) فقد قال في كتابه : ( العالم الإسلامي ) :
((أن محمداً عام 610 للميلاد كان كثير التفكير والانفراد ، وكان يقصد إلى البادية ويخلو بنفسه في جبل حراء قرب مكة ، فرأى ذات يوم رؤيا هي أن الملك جبريل تجلى له ، وناوله كتاباً وقرأ عليه هذه الآيات ص السورة السادسة والتسعون من القرآن اقرأ باسم
ربك الذي خلق الخ نزل عليه هذا الكلام وحياً فأخبر امرأته بما وقع ، ثم جاء وحى آخر فيما بعد ، فلما شعر تغطى بثوب فسمع هذه الكلمات يا أيها المدثر قم فأنذر ودربك فكبر (74/3) ومنذ ذلك الحين اقتنع بأن الله اختاره مبشراً بعقيدة جديدة ، و تسمى برسول الله ليدعو إلى الله بلسان عربي مبين )) 8 .
أن نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان إيذاناً ببدء المرحلة التاريخية الحاسمة الجديدة في حياته - عليه السلام - أولاً ، وفي حياة شبه الجزيرة العربية ثانياً ، لقد كان الإسلام منعطفاً تاريخياً كبيراً ، ولا بد لانتشاره من أن يصطدم بكل القيم والعادات والتقاليد والعبادات السائدة . . . فالدعوة الجديدة تحمل في ثاناياها خصوصية مرحلتها وعالمية الدعوة دونما تناقض أو تنافر ، فهي تسعى إلى صلاح الإنسان وصلاح المجتمع ، ونبذ العادات القبلية الذميمة كوأد البنات والعبادات الوثنية ونقلها إلى العادات الإنسانية السامية ، ورأسها العبادة التوحيدية التي تقول بوحدانية الله وربوبيته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ