عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

الباب الثاني

من البعثة إلى الهجرة

 

الفصل الأول

 

البعـــــــــــــــــــــثة

الوحي وبدء البعثة

 

لقد عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان دائب الاعتكاف يتأمل في سر الوجود ، حبب إليه الخلوة والتحنث ، يقض الأيام الطوال في العزلة والتعبد . . .

 

وكان نزول الوحي عليه في شهر رمضان من عام 610 ميلادية حين بلغ الأربعين من عمره وهو في غار حراء » فهو المصطفى المختار ليكون للناس كافة بشيراً ونذراً . . ..

 

يتحدث المستشرق الفرنسي جان توزنون كرو ( 1867 _ 1924 ) في كتابه « العرب » عن مقدمات النبوة وبدء البعثة في مقدمة كتابه بقوله :

 

((أن الله اصطفى محمداً لإرشاد أمته ، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة وإنارة أبصارهم بنور الحق ، فأخذ من ذلك العهد ينادى باسم الواحد الأحد ، بحسب ما أوحى إليه وبمقتضى عقيدته الراسخة )) . إلى أن قال :

 

(( وقذف في نفس محمد مجموع كتاب ملآن بالأسرار والإلهية ، وأوحى إليه مجموعة حقائق تجتاز مسافة عقله الطبيعي ، لذلك فإن الله علم الإنسان بالقلم » علمه ما لم يعلم ، هذا هو سر الوحي ، وهو مر الكلمة المكتوبة ، و كانت الكلمة المكتوبة  وحياً إلهياً))[1].

 

ويتابع الباحث الفرنسي حديثه من بدء البعثة بقوله :

 

(( وفي نواحي سنة 610  للميلاد ، بلغ محمد أشده ، فكان لا يقدر أن يتصور حال قومه بدون أن يتألم ، وكان يرى أن أمراً ضرورياً ينقصه وينقص قومه ، وكان العرب ، كل قبيلة منهم عاكفة على صنمها ، وكانوا يقولون بالجن والأشباح والغيلان ، ولكنهم  كانوا في غفلة عنها ، وكانت هذه الغفلة هي الموت الروحي ، وكان قلب محمد قد خلا من كل فكر غير الفكر بلله ، وكان قد تجرد من كل قوة غير هذه القوة ،  وكان ليس  في نظره غير واجب الوجود الأحد الصمد ، إلى أن قال : « وأحب محمد في تلك            الفترة العزلة ، فكان يشعر في خلوته في جبل حراء بسرور عميق ، يتزايد يومأ فيوماً » فكان يقض هناك الأسابيع وليس معه إلا قليل من الغذاء ، لأن نفسه كانت تلتذ بالصوم والتهجد » ))[2] .

 

وتحدث المفكر الإنكليزي توماس كارليل في كتابه الأبطال عن اعتكاف الرسول r وتفكره بحقائق الحياة وأسرار الكون حين يقول :

 

« وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس في شهر رمضان ، فينقطع إلى السكون والوحدة دأب العرب وعادتهم ، ونعمت العادة ما أجل وأنفع ، ولا سيما الرجل كمحمد ، لقد كان يخلو إلى نفسه فيناجي ضميره صامتاً بين الجبال الصامتة ، متفتحاً صدره لأصوات الكون الغامضة الخفية . آجل ، حبذا تلك عادة ونعمت ، فلما كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غار بجبل ( حراء ) قرب مكة شهر رمضان ، ليفكر في تلك المسائل الكبرى ، إذ هو  قد خرج إلى خديجة ذات يوم ، وكان قد استصحبها ذلك العام و أنزلها قريباً من مكان خلوته ، فقال لها : انه بفضل الله قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر ، وأنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشك وبرح الخفاء ، وآن جميع هذه الأصنام محال ، وليست إلا أخشاباً حقيرة ، وان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، فهو الحق وكل ما خلاه باطل ، خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي ، الله اكبر والله الحمد ، ثم الإسلام وهو آن نسلم الأمر لله ، ونذعن له ، ونسكن إليه ، ونتوكل عليه ، وآن القوة كل القوة في الاستنامة لحكمه ، والخضوع لحكمته ، والرضا بقسمته ، أية كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة ، ومهما يصبنا به الله ولو كان الموت الزؤام فلنلقه بوجه مبسوط و نفس مغتبطة راضية ، و نعلم أنه الخير وآن لا خير إلا هو ))[3] .

 

ويتابع كارليل الحديث عن هذا الاعتكاف والتفكر في شؤون الحياة والكون ،  إذ كشفت له الحقيقة وأنيرت بصيرته ، مع نزول الوحي عليه » بقوله :

 

((نعم ، هو نور الله قد سطع ئ روح ذلك الرجل فأنار ظلماتها، هو فياء باهر كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك ، وقد سماه  محمد _عليه السلام _ وحياً و« جبريل » ، وأينا يستطيع أن يحدث له اسماً ، ألم يجيء في الإنجيل أن وحى الله يهبنا الفهم والإدراك ، ولا شك أن العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء سر من أغمض الأسرار لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره . وقد قال نوفاليس : « أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله ؟ » فشعور محمد - إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة _ بأن الحقيقة المذكورة  هي أهم ما يجب على الناس علمه ، لم يك إلا أمراً بديهياً ، وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه من الهلاك والظلمة ، وكونه قد أصبح مضطراً إلى إظهارها للعالم أجمع ، هذا كله هو معنى كلمة ( محمد رسول الله) وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين))[4] .

 

لقد أنار نزوع الرسول r إلى الوحدة والتأمل الوجداني العميق ، مفكراً بالشؤون الدينية والقضايا الاجتماعية ، أنار له الطريق لإدراك جوانب الفساد وضروب الضلال في المجتمع المكي، كما كشف له الحقيقة الأزلية : حتمية وجود خالق فرد صمد ، ولا بد بالتالي أن يخضع هذا الكون الكبير لنواميس تديره ، ~ من أصنام قريش وأوثانها .

 

ويتحدث المؤرخ الألماني كارل بروكلمان في كتابه : « تاريخ الشعوب الإسلامية » عن بعثة الرسول بقوله :

 

(( وأغلب الظن أن محمداً قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جداً ، وهو أمر لم يكن مستغرباً عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن أرواء ظمئهم الروحي . و تذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى  ، أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى  كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد . ومع الأيام أخذ الإيمان بالله يعمر قلبه ويملك عليه نفسه ، فيتجلى له فرغ الآلهة الأخرى )) [5] .

 

ويجدر بنا أن نقف عند نقطة هامة ، أثارها بروكلمان عرضاً ، لكن وقف عندها الكثير من الباحثين الفرنسيين ، وهي أن الرسول r قد أخذ من اليهود والمسيحيين أخبارهم السالفة ، ومعلوماتهم الدينية والتاريخية ليشككوا بصدق الوحي ، لينتهوا إلى القول بأن القرآن من تأليف محمد ، ولقد أشار الباحث العربي اللبناني الدكتور عمر فروخ في تعليقه على كتاب بروكلمان   بقوله :

 

(( أكثر المبشرين والمستشرقين يذكرون أن الرسول اتصل ببعض النصارى  واليهود وأخذ عنهم عدداً من المعلومات الدينية والتاريخية . ثم هم يذكرون أن هذه المعلومات كانت خاطئة أو ناقصة .

 

أما وجه الحق فخلاف ذلك . إلا أنني لا أريد أن أريد هنا على المبشرين والمستشرقين مفنداً جميع أقوالهم فذلك مما يطول ، ومما اشتعل به نفر من العلماء أيضا كالشيخ محمد عبده . ولكنني أقول أن العرب أنفسهم قالوا للرسول أن مافي القرآن يشبه بعض ما يقوله علماء اليهود ، فنزلت الآيات الكريمة ( 26/192 - 197) : ) وانه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروحُ الأمينُ . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين . وانه لفي زبر · الأولين . أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ؟ ( .

 

فالخلاف إذن لا يتناول أن بعض المعلومات التي في القرآن تشبه بعض المعلومات التي في التوراة ، بل في زعم هؤلاء بأن القرآن  فهم هذه المعلومات فهماً خاطئاً في رأيهم أو أخذها من مصادر غير موثوقة . فالقضية كانت من العرب الأولين ومن المستشرقين اليوم قضية تعصب فقط ))[6]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  جان تورنون كرو : العرب ، مقدمة الكتاب.

 

[2]  المصدر السابق ، ص 65.

[3]  توماس كارليل : الإبطال ، ص 70-71

 

[4]  المصدر السابق : ص 72.

[5]  كارل بروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية ، ص 34.

·  زُبر : كتب .

[6]  عمر فروخ (في هامش بروكلمان ، ص 34).

 

 




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق