باب فضل الجوع وخشونة العيش
والإقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس
وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات
قال الله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} ((مريم: 59،60)) وقال تعالى: {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً} (( التكاثر:8)) وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً. (( الإسراء: 18)).
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
491- وعن عائشة، رضي الله عنها ، قالت: ما شبع آل محمد، صلى الله عليه وسلم ، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض. ((متفق عليه)).
وفي رواية: ما شبع آل محمد، صلى الله عليه وسلم ، منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض.
492- وعن عروة عن عائشة، رضي الله عنها، أنها كانت تقول: والله يا ابن اختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال: ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول صلى الله عليه وسلم ، نار. قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا. ((متفق عليه)).
493- وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبي أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. ((رواه البخاري)).
494- وعن أنس رضي الله عنه، قال: لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات. ((رواه البخاري)).
(( وفي روايه له: ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط)).
495- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه، ((رواه مسلم)).
496- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثة الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقى ثريناه ((رواه البخاري)).
497- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟” قالا: الجوع يا رسول الله. قال: " وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما. قوما" فقاما معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين فلان؟" قالت ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد الله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا وأخذ المدية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياك والحلوب" فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: " والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" ((رواه مسلم)).
498- وعن خالد بن عمر العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أمير على البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جنهم فيهوي فيها سبعين عاماً، لا يدرك لها قعراً، والله لتملأن ...أفعجبتم!؟ ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الله صغيراً. ((رواه مسلم)).
499- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزاراً غليظاً قالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين ((متفق عليه)).
500- وعن سعيد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: إني لأول العرب رمي بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحلبة، هذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط. ((متفق عليه)).
" الحلبة" بضم الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة: وهي والسمر، نوعان معروفان من شجر البادية.
501- وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" ((متفق عليه)).
قال أهل اللغة والغريب: معنى " قوتاً" أي: ما يسد الرمق.
502- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي النبي، صلى الله عليه وسلم ، فتبسم حين رآني، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: " أبا هر" قلت لبيك يا رسول الله، قال: " الحق" ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخلت، فوجد لبنا في قدح فقال: " من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلان- أو فلانة- قال:" أبا هر" قلت: لبيك يارسول الله، قال: " الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي" قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل، ولا مال، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جأووا وأمرني فكنت أنا أعطيهم؛ وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم،
فأقبلوا واستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال:" يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: " خذ فأعطهم" قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتيهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: " أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: " بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: " اقعد فاشرب" فقعدت فشربت: فقال: " اشرب" فشربت، فما زال يقول: " اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً! قال: " فأرني" فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى، وسمى وشرب الفضلة" ((رواه البخاري)).
530- وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لقد رأيتني وإني لأجر فيما بين منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً علي، فيجيء الجائي، فيضع رجلة على عنقي، ويرى أني مجنون وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. ((رواه البخاري)).
504- وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير. ((متفق عليه)).
505- وعن أنس رضي الله عنه قال: رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير، ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد سمعته يقول: " ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى" وإنهم لتسعة أبيات. ((رواه البخاري)).
506- وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. ((رواه البخاري)).
507- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف. ((رواه البخاري)).
508- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء رجل من الأنصار، فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله. صلى الله عليه وسلم :
" يا أخا الأنصار؛ كيف أخي سعد بن عبادة؟" فقال: صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يعوده منكم؟" فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال، ولا خفاف، ولا قلانس، ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه. ((رواه مسلم)).
509- وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال عمران: فما أدري قال: النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً " ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن" ((متفق عليه)).
510- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ابن آدم: إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول" ((رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)).
511- وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" ((رواه الترمذي وقال: حديث حسن)).
512 -وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ، وكان رزقه كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " ((رواه مسلم )).
513 -وعن أبي محمد فضاله بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "طوبى لمن هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا ،وقنع " ((رواه الترمذي وقال :حديث حسن صحيح )).
514 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعه طاويا، وأهله لايجدون عشاء ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير . ((رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح)).
515- وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس، يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة -وهم أصحاب الصفة- حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: "لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى، لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة" ((رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح)).
"الخصاصة": الفاقة والجوع الشديد.
516- وعن أبي كريمة المقدام بن معديكرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة؛ فتلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".
((رواه الترمذي وقال: حديث حسن)).
"أكلات" أي: لقم.
517- وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي رضي الله عنه قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان" يعني: التقحل. ((رواه أبو داود)).
"البذاذة" بالباء الموحدة والذالين المعجمتين، وهي رثاثة الهيئة، وترك فاخر اللباس. وأما "التقحل" فبالقاف والحاء، قال أهل اللغة: المتقحل: هو الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش، وترك الترفة.
518- وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة رضي الله عنه، نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبوعبيدة يعطينا تمرة تمرة، فقيل كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله. قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا، فأقمنا عليه شهرا، ونحن ثلاثمائة، حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبوعبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شئ فتطعمونا؟" فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. ((رواه مسلم)).
"الجراب": وعاء من جلد معروف، وهو بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح. قوله: نمصها" بفتح الميم. "والخبط" ورق شجر معروف تأكله الإبل. "والكثيب": التل من الرمل. "والوقب" بفتح الواو وإسكان القاف وبعدها باء موحدة، وهو نقرة العين. "بتخفيف الحاء: أي جعل عليه الرحل. "الشائق" بالشين المعجمة والقاف: اللحم الذي اقتطع ليقدد منه، والله اعلم.
519- وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرصغ، ((رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن)).
"الرصغ: بالصاد والرسغ بالسين أيضاً: هو المفصل بين الكف والساعد.
520- وعن جابر رضي الله عنه قال: إنا كنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: "أنا نازل" ثم قام، وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذوقاً فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب، فعاد كثيباً أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثاقي قد كادت تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: "كم هو؟" فذكرت له فقال: "كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي” فقال: “قوموا” فقام المهاجرون والأنصار، فدخلت عليها فقلت: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار ومن معهم! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، قال: “ادخلوا ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا، وبقي منه، فقال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة” ((متفق عليه)).
وفي رواية: قال جابر: لما حفر الخندق رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفأت إلى امراتى فقلت: هل عندك شيء؛ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً فأخرجت إلي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغى، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فجئته وساررته فقلت: يا رسول الله، ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سؤراً فحيهلا بكم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء" فجئت، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك! فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت عجيناً، فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: "ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها"وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
قوله: "عرضت كدية" : بضم الكاف وإسكان الدال وبالياء المثناة تحت؛ وهي قطعة غليظة صلبة من الأرض لا يعمل فيها الفأس. "والكثيب" أصله تل الرمل، والمراد هنا: صارت تراباً ناعماً، وهو معنى “أهيل”. "الأثافي" : الأحجار التى يكون عليها القدر. و"تضاغطوا" : تزاحموا. و"المجاعة" :الجوع، وهو بفتح الميم. و"الخمص" بفتح الخاء المعجمة والميم: الجوع. و”انكفأت” : انقلبت ورجعت. "البهيمة" بضم الباء: تصغير بهمة، وهي العناق -بفتح العين-. و"الداجن": هي التي ألفت البيت. و"السؤر" :الطعام الذي يدعى الناس إليه، وهو بالفارسية. و"حيهلا" أي: تعالوا. وقولها: "بك وبك" أي: خاصمته وسبته، لأنها اعتقدت أن الذي عندها لا يكفيهم، فاستحيت وخفي عليها ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه المعجزة الظاهرة والآية اباهرة. “بسق" أي :بصق؛ ويقال أيضاً: بزق -ثلاث لغات- و"عمد" بفتح الميم: أي قصد. و"اقدحي” أي اغرفي؛ والمقدحة: المغرفة. و”تغط” أي: لغليانها صوت، والله اعلم.
521- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لأم سليم: قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد، ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرسلك أبو طلحة؟" فقلت: نعم، فقال: "ألطعام" فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا" فانطلقوا بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم: قد جاء رسول الله بالناس وليس عندنا ما نطعمهم؟ فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلمى ما عندك يا أم سليم" فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون. ((متفق عليه)).
وفي رواية: فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة، حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل، فأكل حتى شبع، ثم هيأها فإذا هي مثلها حين اكلوا منها.
وفي رواية: فأكلوا عشرة عشرة، حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأهل البيت، وتركوا سؤراً.
وفي رواية: ثم أفضلوا ما بلغوا جيرانهم.
وفي رواية عن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه، وقد عصب بطنه بعصابة، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة، وهو زوج أم سليم بنت ملحان، فقلت: يا أبتاه، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه، فقالوا: من الجوع. فدخل أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء ؟ قالت: نعم عندي كسر من خبز وتمرات، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه وإن جاء آخر معه قل عنهم، وذكر تمام الحديث.