الخاتمة
ماذا بعد:
بعد ما أوردناه في هذا الكتاب من دلائل نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، نقول إن على كل من قرأ تلك الدلائل أو أطلع أن يعلم أن تلك الدلائل هي أدلة على صدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعظم ما صدق فيه محمد صلى الله عليه وسلم تبليغه بأنه نبي مرسل من الرب الرحيم للبشرية جمعاء.
فما سقناه في هذا الكتاب من أخبار وآثار ليس من أجل الإشادة بحسن أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، ولكن سقناها من أجل الإيمان بنبوته ورسالته وتصديقه فيما أبلغ عن ربه وطاعته فيما أمر.
ونود أن نشير هنا إلى أن الهدف من دراسة سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليس الإشادة بعبقريته ولكن للتدليل بعبقريته صلى الله عليه وسلم على نبوته، فما اصطفاه الله عزوجل إلا وهو يعلم أنه في الغاية العليا من حسن الأخلاق وعبقرية الأفعال، ويحسن الإشارة هنا إلى أمر قد يغفل بعض المسلمين عند سماعهم أقوال الغربيين بحق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم واعترافهم بشيمه وعظيم أخلاقه، فكثيرون من الغربيين يشيدون بتلك الأخلاق ويقفون عند هذا الأمر ولا يتجاوزونها إلى ما يجب بشأنه صلى الله عليه وسلم من التصديق برسالته والإيمان بنبوته، وقد أشار شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله إلى هذه النقطة في كتابه الماتع "الجواب الصحيح"، فقال: "فسواء قالوا هو ملك عادل أو هو عالم من العلماء أو هو رجل صالح من الصالحين أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين فمهما عظموه به ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة متى كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله إنه رسول الله وأنه بلغ هذا القرآن عن الله ومن كان كاذبا في قوله إنه رسول الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة البتة لكن له أسوة أمثاله .. فتبين أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله.
وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب وأكثرهم يعظمون محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا إليه من توحيد الله تعالى ولما نهى عنه من عبادة الأوثان ولما صدق التوراة والإنجيل والمرسلين قبله ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به ومحاسن الشريعة التي جاء بها وفضائل أمته التي آمنت به ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات البراهين والمعجزات والكرامات لكن يقولون مع ذلك إنه بعث غيرنا وإنه ملك عادل له سياسة عادلة وإنه مع ذلك حصل علوما من علوم أهل الكتاب وغيرهم ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه كما وضع أكابرهم لهم القوانين والنواميس التي بأيديهم.
ومهما قالوه من هذا فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله لأنه قد عرف بالنقل المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال إنه رسول الله إلى جميع الناس وأن الله أنزل عليه القرآن فإن كان صادقا في ذلك فمن كذبه في كلمة واحدة فقد كذب رسول الله ومن كذب رسول الله فهو كافر وإن لم يكن صادقا في ذلك لم يكن رسولا لله بل كان كاذبا ومن كان كاذبا على الله يقول الله أرسلني بذلك ولم يرسله به لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله".
إذن فإن المنتظر من قارئ هذا الكتاب أن يمعن فيه بنظره ويعمل فيه عقله، فإن كان مسلمًا فيزيده ما جاء في الكتاب إيمانًا بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فيقوم بحقوقه من تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وإتباعه فيما فعل صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان القارئ غير مسلم فإننا ندعوه إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لما رآه من دلائل باهرة على صدقه وصدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فلا يمنعن كبره أو حسده أن يقر بالحق ويشهد بكلمة التوحيد، ونقول له لا يكفي منك أن تشهد بعبقرية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل عليك أن تتبع ذلك بالإيمان به صلى الله عليه وسلم.
ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين – الإنس والجن – الذين أدركتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز.
يقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158]، وقال تعالى في حق من لم يؤمن: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح: 13].
ولقد وردت في السنة أحاديث كثيرة جدا تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم على الجن والإنس الذين أدركتهم رسالته، سواء كانوا أهل كتاب، أم ليسوا بأهل كتاب، ويستوي في ذلك عربهم وعجمهم، وذكرهم وأنثاهم، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع لي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
و"الإيمان بالرسول: هو تصديقه وطاعته وإتباع شريعته"، فهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أما تصديقه صلى الله عليه وسلم فيتعلق به أمران عظيمان:
أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به صلى الله عليه وسلم.
ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدة أمور منها:
1- الإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنهم.
2- الإيمان بكونه خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات.
3- الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.
4- الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها وأدى الأمانة ونصح لأمته حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها.
5- الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم.
6- الإيمان بماله من حقوق خلاف ما تقدم ذكره كمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم.
الثاني:"تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب إتباعه، وهذا يجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل أحد".
أما طاعته وإتباع شريعته، فالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يتضمن تصديقه فيما جاء به فهو يتضمن كذلك العزم على العمل بما جاء به وهذه هي الركيزة الثانية من ركائز الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وهي تعني: الانقياد له صلى الله عليه وسلم وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وزجر امتثالا لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7].
فيجب على الخلق إتباع شريعته والالتزام بسنته مع الرضا بما قضاه والتسليم له، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله وأن معصيته معصية لله لأنه هو الواسطة بين الله وبين الثقلين في التبليغ.
وبهذا يتحقق الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وينال المرء الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
وفي الختام أسال الله عزوجل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بالرضي والقبول والتكريم، وأن ينفع الله به المسلمين والمؤمنين، وأن يجمعنا مع نبيه صلى الله عليه وسلم في الجنة ويحشرنا تحت رايته بعد أن يحيينا على سنته ويمتنا على شرعته.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين