النظر في منهج ومبادئ هذه الرسالة:
المحور الثالث الذي دار عليه بحث هرقل عن حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النظر في الرسالة التي جاء بها ومقارنتها بما يعرف من رسالات الأنبياء والرسل السابقين.
يقول هرقل:"وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ".
إن النبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، ولقد اتفقت الشرائع السماوية جميعها على الدعوة إلى الخير والصلاح، فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل وأمر بالشرك وعبادة الأوثان وإباحة الفواحش والظلم والكذب ولم يأمر بعبادة الله ولا بالإيمان باليوم الآخر، فهل مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو يشك في كذبه أنه نبي ولو قدر أنه أتى بما يظن أنه معجزة لعلم أنه من جنس المخاريق أو الفتن والمحنة.
ولقد استدل النجاشي، كما رأينا، على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع القرآن الكريم وقارنه بما يعرفه من علوم الأنبياء السابقين حتى قال: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة"، لذلك فإن الكذاب الفاجر لا يتصور أن يكون في أخباره وأوامره موافقا للأنبياء بل لا بد أن يخالفهم في الأصول الكلية التي اتفق عليها الأنبياء كالتوحيد والنبوات والمعاد كما أن القاضي الجاهل أو الظالم لا بد أن يخالف سنة القضاة العالمين العادلين وكذلك المفتي الجاهل أو الكاذب والطبيب الكاذب أو الجاهل فإن كل هؤلاء لا بد أن يتبين كذبهم أو جهلهم بمخالفتهم لما مضت به سنة أهل العلم والصدق.
وإن كان قد يخالف بعضهم بعضا في أمور اجتهادية فإنه يعلم الفرق بين ذلك وبين المخالفة في الأصول الكلية التي لا يمكن مخالفتها.
إن القيم العظيمة والمبادئ السامية التي يدعو إليها الإسلام لهي دليل واضح بين على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل الحديث عن رسالة الإسلام ومميزاتها العظيمة، يحسن بنا أن نشير إلى حاجة البشرية الشديدة إلى الرسل ورسالاتهم، وقد أوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - حاجة العباد إلى بعثة المرسلين في مواضع شتى من كتبه، فمن ذلك قوله: "والرسالة ضرورية للعباد، لا بدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كلّ شيء، والرسالة روح العالم، ونوره، وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة. وكذلك العبد ما لم تُشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة، وهو من الأموات. قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)[الأنعام، 122]، فهذا وصف المؤمن، كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس. وأما الكافر فميّت القلب في الظلمات".
وقال - رحمه الله - أيضاً: "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإنّ الإنسان مضطر إلى الشرع؛ فإنه بين حركتين؛ حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضرّه. والشرع هو النور الذي يُبيِّن ما ينفعه وما يضرّه، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً، وليس المراد بالشرع التمييز بين الضارّ والنافع بالحسّ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميّز بين الشعير والتراب. بل التمييز بين الأفعال التي تضرّ فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصديق والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه واحتساب الثواب عنده، وتصديقه، وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد. فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشرّ حالاً منها. فمن قبل رسالة الله واستقام عليها، فهو من خير البرية، ومن ردَّها وخرج عنها فهو من شرّ البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم".
فحاجة الناس إلى الرسل لا تماثلها حاجة، واضطرارهم إلى بعثتهم لا تفوقها ضرورة، فهم في أشدّ حاجة، وأعظم ضرورة.
وهذا ما وضّحه شيخ الإسلام - رحمه الله - بقوله: "وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشدّ حاجة من كلّ ما يقدّر ويخطر بالبال. فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده".
إن اضطرار العباد إلى المرسلين لا يُعادله اضطرار، وحاجتهم إلى المبشرين والمنذرين لا تماثلها حاجة، وفيما نقلناه من أقوال بيان كاف شاف لمن ألقي السمع وهو شهيد، أما الإسلام فهو خاتمة الرسالات وجاء بالسعادة والصلاح للبشرية في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنعرضه في الصفحات القادمة.
مزايا الرسالة المحمدية:
تميزت الشريعة المحمدية بعدة مزايا عن بقية الرسالات التي سبقتها، ولا عجب في ذلك فهي الرسالة الخاتمة والتي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة؛ ومن هذه المزايا:
الأولى: شمول التشريع الإسلامي لجميع شئون الحياة وإحاطته بها:
لقد أنزل الله سبحانه هذه الشَريعة وجعلها منهاجاً لهذه الأمة وطريقاً تسلكها في جميع شئونها، فهذه الشريعة شاملة لجميع شئون الحياة ومرافقها، فانتظمتها جميعاً بأحكامها العادلة وتوجيهاتها الحكيمة.
وعندما ننظر في أحكام الشريعة وموقفها من شئون الناس وأحوالهم نجدها على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: من شئون الناس والحياة، أمرت به الشريعة ودعت إليه، وقد يكون هذا الأمر على وجه الإلزام أو على غير وجه الإلزام.
النوع الثاني: من شئون الناس والحياة نهي عنه الشارع وحذر منه، وقد يكون، هذا النهي كذلك على وجه الإلزام أو على غير وجه الإلزام.
النوع الثالث: ما سكت عنه الشارع، وهذا السكوت ليس عن غفلة ولا نسيان، وإنما بقصد التخفيف، وهو ما يدخل في دائرة المباح وتحكمه ضوابط تحقيق المصلحة ورعاية حاجات البشر وعدم الإتيان بمخالفة لضوابط الإسلام وثوابته.
ولقد دل النقل الصريح والعقل الصحيح على عموم الشريعة الإسلامية وشمولها لجميع شئون الحياة:
الدليل الأول: النص من الكتاب والسنة وواقع الأمة الإسلامية خاصة في عصر النبوة والخلافة الراشدة، يقول الله عزوجل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال ابن مسعود- رضي الله عنه- قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء، وقال مجاهد- رحمه الله - كل حلال وكل حرام وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم".
والآيات الواردة في هذا الصدد كثيرة، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على شمولية الرسالة الخاتمة، فهذا يهودي يقول لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، فأجابه سلمان قائلاً: أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ".
وقال حذيفة - رضي الله عنه-: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ.
ومن نظر إلى واقع الأمة الإسلامية في العهد النبوي لرأى كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رعى جميع أحوال المسلمين، وتولى جميع شئونهم الدينية والدنيوية فأفتي وقضي في الحقوق والحدود، وقاد الجيوش وقسم الغنائم وأم المسلمين في الجمع والجماعات، وكاتب الملوك ودعاهم إلى الإسلام، وتفقد أحوال المسلمين في تعاملهم بالبيوع والإجارات وأنواع المزارعة وفي النكاح والطلاق والرجعة وفي الاستطباب وتجهيز الأموات وقسمة المواريث فلا يمكن أن يتم أمر في المدينة من أحوال الناس وشئونهم إلا وله عليه الصلاة والسلام حكمة في ذلك من إقرار أو إنكار، وفي عهد الخلفاء الراشدين- رضى الله عنهم وعن الصحابة أجمعين- فكذلك، ما كان يبت في أمر من الأمور الدقيقة أو الجليلة إلا بالرجوع إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالاجتهاد وفق أصول الشرع وقواعده.
فمسألة شمول الإسلام وإحاطته بجميع شئون المسلمين كما أمر الله كانت واضحة تماما في هذا العصر الزاهر الذي يعتبر امتداداً لعصر النبوة ولا زال الأمر كذلك في العصور الإسلامية التالية، مع شيء من الضعف الذي أصبح شديداً في القرون المتأخرة، حيث غلبت العادات القبلية والتقاليد الواردة من الأمم الأخرى على الأحكام الشرعية.
الدليل الثاني: إقرار العقل الصحيح بشمولية رسالة الإسلام، فإن العقل والاستنتاج لا يتصور أن الله سبحانه يترك خلقه مهملين دون ما رعاية ترعاهم وعناية تحوطهم في كل ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، لأن هذا لو حصل لاعتبر تقصيرا وتفريطا لا يليق بالله سبحانه وحاشاه من ذلك، فكيف وإذا كانت هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع بنبيها وكتابها.
لذلك فإن التشريع الإسلامي يشمل أحوال الناس وينظمها في كل الأحوال ينظم أحوال الفرد والأسرة، وينظم شئون الدولة في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، يحدد السياسة الداخلية والخارجية وصلة الدولة بالأعداء والأصدقاء في حالة السلم والحرب، ويحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين العامل ورب العمل وبين الابن وأبويه والزوج وزوجه.
الثانية: العدل:
ومن أعظم مزايا الشريعة الإسلامية، تميزها بالعدل في المبادئ وعند التطبيق، وصور العدل في التشريع الإسلامي كثيرة متعددة، يدركها من يمعن النظر في أحكامه ويتدبرها بتجرد وإخلاص، فأحكام الأسرة وحقوق الأفراد وواجباتهم في الأسرة لا تماثلها أحكام مما تواضع عليه البشر واعتادوه، فالأب له حقوقه وعليه التزاماته، والأم كذلك، والأبناء المكلفون كذلك، ونجد هذه القاعدة الفريدة في التعامل بين الزوجين المتمثلة في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة) [البقرة: 299].
وتتدرج صور العدل في أحكام الشريعة حتى تعم الفئات كلها والحياة جميعها بل إن أعداء الإسلام ينالون نصيبًا كبيرًا من هذا العدل، يقول الله تبارك وتعالى: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
أما عند التطبيق، فقد طالب الإسلام المسلمين والعلماء منهم خاصة وولاة الأمر بتحري العدل في تطبيق الأحكام، أو عند استنباطها، فوضع قوالب عامة ومعايير دقيقة ومقاييس عادلة لاستنباط الأحكام، فالأحكام الاجتهادية ليست عشوائية في استنباطها ولا ارتجالية في وضعها، ولكنها محكومة بقواعد وأصول فلابد أن تكون منسجمة مع الأصول العامة للشريعة، والقواعد الأساسية، والغايات والأهداف الكبرى، ويمكن الرجوع إلى هذا الموضوع في كتب أصول الفقه.
وفي مجال التطبيق كذلك فقد حث الله سبحانه المسلمين عامة وولاة الأمر بصفة خاصة على العدل، وحث على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
الثالثة: المصلحة:
ومن أهم معالم الشريعة الإسلامية تميزها بحرصها على كل ما فيه مصلحة للبشر، حتى صار ذلك من قواعد الدين وأصول الفتيا؛ يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "والشريعة ما وُضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم"، ويقول الإمام ابن القيم الجوزية: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها".
أما في التطبيق فإن وقائع المسلمين وفتاوى علمائهم في القديم والحديث حاوية بأمثلة كثيرة على ذلك، غير أن المصلحة ليست أمرًا عامًا يسوغ العمل به دون ضوابط، لأن ذلك يؤدي إلى الإخلال بالأحكام التشريعية، وقد وضع الفقهاء شروطاً يجب إستيفاؤها قبل الإذن بالعمل بالمصلحة، وهي :
1 - أن تكون منسجمة مع مقاصد الشرع ، غير معارضة لنص قطعي ولا لأصل من الأصول .
2 - أن يرفع بها مشقة واقعة أو حرجاً لازماً.
3- أن تكون عامة للأمة وليست خاصة لأفراد معدودين.
4- أن لا تتعارض مع مصلحة أكبر أو تتسبب في مفسدة أخطر.
وبهذه الضوابط وبهذا الحرص على صالح الناس، تنسجم الشريعة الإسلامية مع أحوال الناس في كل مكان وزمان.
الرابعة: اليسر:
من مزايا التشريع الإسلامي الاتجاه إلى التيسير على الناس وعدم إيقاعهم في الحرج والضيق والمشقة وهذا واضح من الآيات والأحاديث الكثيرة يقول جل ذكره: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، ويقول سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم)[النساء: 28].
أما هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك فتقول السيدة عائشة رضى الله عنها: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".
وهذا واضح في العبادات من صلاة وصوم وحج، وكذلك في المعاملات فإنها مبنية على التيسير على الناس وعدم إيقاعهم في المشقة والحرج، أما فيما يتصل بحقوق الناس إن كانت في الأموال أو الدماء أو الأعراض، فهذه ينبغي أن يمكن صاحب الحق من حقه، ولكن برفق، لذلك فإن أي نظام يسن ينبغي أن يراعى فيه التيسير والرفق بمن وضع لهم والرحمة بهم.
الخامسة: الحكمة:
والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه المناسب، ونلاحظ الحكمة في التشريع الإسلامي في عدة مواضع, فمنها فيما يختص بالإرث وتقسيمه بنسب معينة, نلاحظ أنها في منتهى الحكمة, فعندما نقارن بين أنصبة البنين والبنات والأخوة والأخوات والأبوين والزوجين, نجدها تتناسب مع مسئولياتهم ومع واجباتهم وصلتهم بالميت, وعندما نلاحظ العقوبات وتفاوتها من حد إلى حد ومن جناية إلى جناية نجد التناسب التام والانسجام الدقيق العقوبة والجريمة, وكذلك نجد الحكمة في تفاوت أنصبة الزكاة ومقاديرها من مال إلى مال, كذلك العبادات فأحكامها في غاية الحكمة, وهذا شأن التشريع الإسلامي وصفته المميزة له الحكمة, فهو من لدن عليهم حكيم.
السادسة: العناية بالدنيا والآخرة:
من المميزات الرئيسية للتشريع الإسلامي بصفة عامة، أنه شامل للدنيا والآخرة، علاج للظاهر والباطن، فهو لا يكتفي بعلاج الظاهر دون الباطن، ولا يكتفي بالحديث عن الدنيا دون الحديث عن الآخرة.
ولذلك فإن النظم الإسلامية كلها يجب أن تكون مبنية على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر وبالبعث بعد الموت والمجازات بالعمل إن خيراً فخيرا وإن شراً فشراً، ولاشك أن النظم التي ترتكز على هذه القواعد العظيمة، وتعتبر مستمدة من المنهج الإلهي لا شك أنه سوف يكون لها قدسية في نفوس الناس وأثر كبير وهيبة عظيمة، وإن المسلم الذي يعتقد أنه أن أفلت في الدنيا من قبضة الحاكم فلن يفلح في الآخرة من قبضة الله سبحانه وأنه له بالمرصاد، وأن أعماله وحركاته وسائر تصرفاته مرصودة وأن أنفاسه محسوبة معدودة.
وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي لا ترتكز على دعائم من الإيمان في جوهرها، ولا تراعي أحاسيس الإنسان ومشاعره في أسلوبها، فهي مجرد أوامر ونواه جافة، تكتفي بعلاج الظاهر والحديث عن الدنيا على ضعف في العلاج وقصور في الحديث وركاكة في الأسلوب.
السابعة: العصمة والصدق:
ومن أعظم مزايا الشريعة الإسلامية أنها معصوما عن الخطأ، معصوما عن التحريف والتبديل والتغيير، وذلك لأنها من عند الله تبارك وتعالى خالق الإنسان والخبير بما ينفعه ويضره، كما أن الله عزوجل تعهد بحفظ كتابه وحفظ شريعته من أي تحريف أو تزييف أو انحراف؛ يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله-: إن هذه الشريعة معصومة كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة ثم دلل على ذلك بأمرين:
الأول:من القرآن الكريم حيث قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
والثاني: دليل الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن.
وكما تعتبر هذه الشريعة معصومة، فهي صادقة مصيبة يقول الله جل وعلا: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) [النساء: 87]، ويقول تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، ويصف الله القرآن فيقول: (َلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82].
هذه هي أهم مميزات الشريعة الإسلامية التي تجعلها بحق أفضل الشرائع والتي تلزم كل من أقر بها أن يؤمن ويعمل بها لا أن ينحرف ويضل عنها؛ غير أن البعض قد يتهم الشريعة الإسلامية بالقسوة وذلك بسبب الحدود والعقوبات المقدرة, ونرد على هذه الشبهة في النقاط التالية:
ماذا عن العقوبات والحدود؟:
يتهم غير المنصفين الإسلام بأن أحكامه قاسية ويدللون على ذلك بالحدود التي قررتها الشريعة الإسلامية لمرتكبي الجرائم المختلفة من السرقة والزنا والقتل، غير أن المتبصر والمتأمل في مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها لأدرك عظمة هذا الدين، فهو ليس الدين الفرد الواحد الذي يقدم شهواته ورغباته على صالح المجتمع والأمة، بل هو دين جماعي مجتمعي يحافظ على وحدة المجتمع وينفى عنه ما يضره، وبالتأكيد فإن مكونات هذا المجتمع هم الأفراد أنفسهم، وإنما نهت الشريعة الإسلامية عن الأشياء التي تعتبرها جرائم لا لشيء إلا لأن في ارتكابها أضراراً جسيمة تلحق بنظام المجتمع وعقائده أو بأمنه وكرامته أو بحياة أفراده وأموالهم وأعراضهم ومشاعرهم.
والحكمة من الحدود في الشرع الحنيف هي معالجة الأمراض الاجتماعية فإذا نظرنا إلى المجتمع كوحدة واحدة وجسم واحد، ونظرنا إلى الأفراد وهم يمثلون خلايا الجسم وأعضائه وأطرافه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقـد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.
ويحسن بنا أن ننقل مقارنة عقدها الأستاذ القانوني عبد القادر عودة رحمه الله في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي حيث قال: "فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام".
وإن كان الغرب قد ألغى عقوبة الإعدام في هذا العصر واتخذ بدلاً منها عقوبة الحبس والسجن، فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجـل ليس إلا قتلا بالتقسيـط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.
لقد لخص "عبد القادر عودة"رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط؛ فذكر منها:
أولا: إرهاق خزانـة الدولة وتعطيل الإنتاج: حيث تتحمل الدولة نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.
ثانيا: إفساد المسجونين: ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وبذلك أصبح السجن مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.
إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمـة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به.
ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: فوق أن عقوبة الحبس غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.
رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقـة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.
خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.
من خلال هذه النظرة السريعة يتضح لنا بجلاء أن العقوبات الإسلامية أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من عيوبه.
ضمانات تنفيذ الحدود الشرعية:
إضافة إلى هذه الفوائد التي ذكرناها، فإن الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية أُحيطت بضمانات كثيرة حتى تنحصر في أضيق دائرة ممكنة فالحدود تدرأ بالشبهات والإثبات فيها اقترن بضمانات قوية تمنع الكذب كما أن الإسلام في تطبيقه القضائي ما سوغ لأحد التتبع والتجسس على الناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12].
فلا تجسس ولا تتبع للعورات بل إنّ العقاب يكون حيث يتحقق الإثبات فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
إن من ينظر إلى الحدود في جريمتي الزنا والسرقة، يلاحظ أنها لا تثبت إلا عن طريقين فقط.
الطريق الأولى : طريِقة الاعتراف الصحيح، الخالي من الموانع، الصادر من عاقل بالغ، وفى حالة معتبرة شرعاً، دون إكراه أو ضرورة، وأن يثبت على إقراره حتى يتم تنفيذ العقوبة فيه، وله الحق أن يرجع عن إقراره ولو بعد الشروع في معاقبته، فأي شدة أو قسوة في ذلك؟.
الطريقة الثانية : أن تثبت هذه الحدود عن طريق الشهادة، وإنها لطريق صعبة، ومسلك وعر، فقد وضعت شروط دقيقة عديدة، قل أن تتوفر، خاصة بالنسبة للزنا، فهناك شروط في الشاهد، وهناك شروط في الشهادة وشروط في الإحصان، وشروط في الزنا، ومن النادر جدا أن تتوفر هذه الشروط في قضية من القضايا.
ولعلنا قبل أن نترك تلك النقطة ننقل شهادة أوروبي عن نتائج وآثار العقوبات الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وآثار العقـوبات الوضعية في المجتمعات الأخرى، ينقل لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي انطباعات الأستاذ محمد أسد، وهو من النمسا عندما زار دمشق في أول القرن العشرين الميلادي، يوم كانت دمشق تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية، على ما كان فيها من تقصير وإهمال يقول: "وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، ثم يسترسل فيقول: وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعاملون بعضهم بعضا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة الذين كانوا يبدون وكأنـما ليس فيهم أيما قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب دكان فيهم ليترك دكانـه في عهدة جاره ومزاحمة، كل ما دعته حاجته إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونا يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه، يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع أو ينتقل إلى الدكان المجـاور، فيتقدم التاجر المجاور دائما "التاجر المزاحم "، ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة، لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب، ويـترك له الثمن على مقعـده، أين في أوروبا يستطيـع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة".
هذه هي الشريعة الإسلامية، وتلك مميزاتها وهذا رد على أهم الشبهات المحيطة بها، فأين المنصفون والعقلاء