ذكر أقضيته وأحكامه في النكاح وتوابعه
فصل في حكمه في الثيب والبكر يزوجهما أبوهما
ثبت عنه في الصحيحين أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا فأتت رسول الله فرد نكاحها .. وفي السنن من حديث ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي فذكرت له أن أباها زوجها كارهة فخيرها النبي وهذه غير خنساء فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب وقضى في الأخرى بتخيير .. وثبت عنه في الصحيح أنه قال لا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت.. وفي صحيح مسلم البكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها .. وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح ولا تزوج إلا برضاها وهذا جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه وهو القول الذي ندين به ولا نعتقد سواه وهو الموافق لحكم رسول الله وأمره ونهيه وقواعد شريعته أمته ..أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة وليس رواية الحديث مرسلة بعلة فيه فإنه قد روي مسندا ومرسلا فإن قلنا بقول الفقهاء إن زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما هذا خرج عن حكم أمثاله وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة والقياس وقواعد الشرع كما سنذكره فيتعين به ..
وأما موافقة هذا القول لأمره فإنه قال والبكر تستأذن وهذا أمر مؤكد لأنه ورد الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوته ولزومه والأصل في أوامره أن تكون ما لم يقم إجماع على خلافه .. وأما موافقته لنهيه فلقوله لا تنكح البكر حتى تستأذن فأمر ونهى وحكم بالتخيير إثبات للحكم بأبلغ الطرق
وأما موافقته لقواعد شرعه فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في شيء من مالها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها فكيف أن يرقها ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو وهي من أكره الناس فيه من أبغض شيء إليها ومع هذا فينكحها إياه قهرا بغير رضاها إلى من يريده ويجعلها عنده كما قال النبي اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أي أسرى ومعلوم إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها أبطل من قال إنها إذا عينت كفئا تحبه وعين أبوها كفئا فالعبرة بتعيينه ولو بغيضا إليها الخلقة
وأما موافقته لمصالح الأمة فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه مقاصد النكاح لها به وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه فلو لم تأت السنة بهذا القول لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره وبالله ..فإن قيل فقد حكم رسول الله بالفرق بين البكر والثيب وقال ولا تنكح الأيم حتى ولا تنكح البكر حتى تستأذن وقال الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها فجعل الأيم أحق بنفسها من وليها فعلم أن ولي البكر أحق بها من نفسها وإلا لم لتخصيص الأيم بذلك معنى
وأيضا فإنه فرق بينهما في صفة الإذن فجعل إذن الثيب النطق وإذن البكر الصمت وهذا يدل على عدم اعتبار رضاها وأنها لا حق لها مع أبيها ..فالجواب أنه ليس في ذلك ما يدل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها وأن يزوجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفئا والأحاديث التي احتججتم بها في إبطال هذا القول وليس معكم أقوى من قوله الأيم أحق بنفسها من وليها هذا يدل بطريق المفهوم ومنازعوكم ينازعونكم في كونه حجة ولو سلم أنه حجة فلا يجوز على المنطوق الصريح وهذا أيضا إنما يدل إذا قلت إن للمفهوم عموما والصواب لا عموم له إذ دلالته ترجع أن التخصيص بالمذكور لا بد له من فائدة وهي نفي الحكم عما عداه ومعلوم أن ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة وأن إثبات حكم آخر للمسكوت عنه فائدة لم يكن ضد حكم المنطوق وأن تفصيله فائدة كيف وهذا مفهوم مخالف للقياس الصريح قياس الأولى كما تقدم ويخالف النصوص المذكورة ..وتأمل قوله والبكر يستأذنها أبوها عقيب قوله الأيم أحق بنفسها من وليها قطعا هذا القول وأن البكر تزوج بغير رضاها ولا إذنها فلا حق لها في نفسها البتة إحدى الجملتين بالأخرى دفعا لهذا التوهم ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للبكر في نفسها حق ألبتة ..
وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستة أقوال ..أحدها أنه يجبر بالبكارة وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية ..الثاني أنه يجبر بالصغر وهو قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية ..الثالث أنه يجبر بهما معا وهو الرواية الثالثة عن أحمد .. الرابع أنه يجبر بأيهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه ..الخامس أنه يجبر بالإيلاد فتجبر الثيب البالغ حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن قال وهو خلاف الإجماع قال وله وجه حسن من الفقه فيا ليت شعري ما هذا الوجه المظلم
السادس أنه يجبر من يكون في عياله ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب
فصل
وقضى بأن إذن البكر الصمات وإذن الثيب الكلام فإن نطلقت البكر بالإذن بالكلام آكد وقال ابن حزم لا يصح أن تزوج إلا بالصمات وهذا هو اللائق بظاهريته
فصل
وقضى رسول الله أن اليتيمة تستأمر في نفسها ولا يتم بعد احتلام فدل ذلك على نكاح اليتيمة قبل البلوغ وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها وعليه يدل القرآن وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما قال تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) النساء 127 قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في نكاحها ولا يسقط سنة صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن سنة صداقهن ..وفي السنن الأربعة عنه اليتيمة تستأمر في نفسها فإن صمتت إذنها وإن أبت فلا جواز عليها
المقال السابق
المقال التالى