فصل في هدية في الصدقة والزكاة
هديه في الزكاة أكمل هدي في وقتها وقدرها ونصابها ومن تجب عليه ومصرفها وقد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال لصاحبه وقيد النعمة بها على الأغنياء فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات ويجعلها سورا عليه وحصنا له وحارسا له ثم إنه جعلها في أربعة أصناف من المال وهي أكثر الأموال دورانا بين الخلق وحاجتهم إليها ضروية أحدها الزرع والثمار الثاني بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم الثالث الجوهران اللذان بهما قوام العالم وهما الذهب والفضة الرابع أموال التجارة على اختلاف أنواعها ثم إنه أوجبها مرة كل عام وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها وهذا أعدل ما يكون إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها وسهولة ذلك ومشقته فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعا محصلا من الأموال وهو الركاز ولم يعتبر له حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به وأوجب نصفه وهو العشر فيما كانت مشقة تحصيله وتعبه وكلفته فوق ذلك2 وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها ويتولى الله سقيها من عنده بلا كلفة من العبد ولا شراء ماء ولا إثارة بئر ودولاب وأوجب نصف العشر فيما تولى العبد سقيه بالكلفة والدوالي والنواضح وغيرها وأوجب نصف ذلك وهو ربع العشر فيما كان النماء فيه موقوفا على عمل متصل من رب المال بالضرب في الأرض تارة وبالإدارة تارة وبالتربص تارة ولا ريب أن كلفة هذا أعظم من كلفة الزرع والثمار وأيضا فإن نمو الزرع والثمار أظهر وأكثر من نمو التجارة فكان واجبها أكثر من واجب التجارة وظهور النمو فيما يسقى بالسماء والأنهار أكثر مما يسقى بالدوالي والنواضح وظهوره فيما وجد محصلا مجموعا كالكنز أكثر وأظهر من الجميع ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساة كل مال وإن قل جعل للمال الذي تحتمله المواساة نصبا مقدرة المواساة فيها لا تجحف بأرباب الأموال وتقع موقعها من المساكين فجعل للورق مائتي درهم وللذهب عشرين مثقالا وللحبوب والثمار خمسة أوسق وهي خمسة أحمال من أحمال إبل العرب وللغنم أربعين شاة وللبقر ثلاثين بقرة وللإبل خمسا لكن لما كان نصابها لا يحتمل المواساة من جنسها أوجب فيها شاة فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا منها فكان هو الواجب ثم إنه لما قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها من ابن مخاض وبنت مخاض وفوقه ابن لبون وبنت لبون وفوقه الحق والحقة وفوقه الجذع والجزعة وكلما كثرت الإبل زادالسن إلى أن يصل السن إلى منتهاه فحينئذ جعلت زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادة عدد المال فاقتضت حكمته أن جعل في الأموال قدرا يحتمل المواساة ولا يحجف بها ويكفي المساكين ولا يحتاجون معه إلى شيء ففرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقاء فوقع الظلم من الطائفتين الغني يمنع ما وجب عليه والآخذ يأخذ ما لا يستحقه فتولد من بين الطائفتين ضرر عظيم على المساكين وفاقة شديدة أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف في المسألة والرب سبحانه تولى قسم الصدقة بنفسه وجزأها ثمانية أجزاء يجمعها صنفان من الناس أحدهما من يأخذ لحاجة فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها وكثرتها وقلتها وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل والثاني من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم الغارمون لإصلاح ذات البين والغزاة في سبيل الله فإن لم يكن الآخذ محتاجا ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة
فصل
وكان من هدية إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب وكان يأخذها من أهلها ويضعها في حقها وكان من هدية تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال وما فضل عنهم منها حملت إليه ففرقها هو ولذلك كان يبعث سعاته إلى البوادي ولم يكن يبعثهم إلى القرى بل أمر معاذ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ويعطيها فقراءهم ولم يأمره بحملها إليه ولم يكن من هديه ان يبعث سعاته إلا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزروع والثمار وكان يبعث الخارص فيخرص على أرباب النخيل تمر نخيلهم وينظر كم يجيء منه وسقا فيحسب عليهم من الزكاة بقدره
وكان يأمر الخارص أن يدع لهم الثلث أو الربع فلا يخرصه عليهم لما يعرو النخيل من النوائب وكان هذا الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتصرم وليتصف فيها أربابها بما شاؤوا ويضمنوا قدر الزكاة ولذلك كان يبعث الخارص إلى من ساقاه من أهل خيبر وزراعه فيخرص عليها الثمار والزروع ويضمنهم شطرها وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة فأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلى من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي لكم وحبي إياه أن لا أعل عليكم فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض ولم يكن من هدية أخذ الزكاة من الخيل والرقيق ولا البغال ولا الحيمر ولا الخضرواوات ولا المباطخ والمقاتي والفواكه التي لا تكال ولا تدخر إلا العنب والرطب فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يفرق بين ما يبس منه ولم لم ييبس
فصل
واختلف عنه في العسل فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي واديا يقال له سلبة فحمى له رسول الله ذلك الوادي فلما ولي عمر ب الخطاب رضي الله عنه كتب إليه سفيان بن وهب يسأله عن ذلك فكتب عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء .
وفي رواية في هذا الحديث من كل عشر قرب قربة وروى ابن ماجه في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه أخذ من العسل العشر وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سيارة المتعي قال قلت يا رسول الله إنلي نحلا قال أد العشر قلت يا رسول الله احمها لي فحماها لي وروى عبد الرزاق عن عبدالله بن محرر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كتب رسول الله إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر قال الشافعي أخبرنا أنس بن ابن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب قال قدمت على رسول الله فأسلمت ثم قلت يا رسول الله اجعل لقومي من أموالهم ما أسلموا عليه ففعل رسول الله واستعملني عليهم ثم استعملني أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما قال وكان سعد من أهل السراة قال فكلمت قومي في العسل فقلت لهم فيه زكاة فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى فقالوا كم ترى قلت العشر فأخذت منها العشر فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبرته بما كان قال فقبضه عمر ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين ورواه الإمام أحمد ولفظه للشافعي واختلف أهل العلم في هذه الأحاديث وحكمها فقال البخاري ليس في زكاة العسل شيء يصح وقال الترمذي لا يصح عن النبي في هذا الباب كثير شيء وقال ابن المنذر ليس في وجوب صدقة العسل حديث يثبت عن رسول الله ولا إجماع فلا زكاة فيه وقال الشافعي الحديث في أن في العسل العشر ضعيف وفي أنه لا يؤخذ منه العشر ضعيف إلا عن عمر بن عبد العزيز قال هؤلاء وأحاديث الوجوب كلها معلولة أما حديث ابن عمر فهو من رواية صدقة بن عبد الله بن موسى بن يسار عن نافع عنه وصدقة ضعفه الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما وقال البخاري هو عن نافع عن النبي مرسل وقال النسائي صدقة ليس بشيء وهذا حديث منكر
وأما حديث أبي سيارة المتعي فهو من رواية سليمان بن موسى عنه قال البخاري سليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب رسول الله وأما حديث عمرو بن شعيب الآخر أن النبي أخذ من العسل العشر ففيه أسامة بن زيد بن أسلم يرويه عن عمرو وهو ضعيف عندهم قال ابن معين بنو زيد ثلاثتهم ليسوا بشيء وقال الترمذي ليس في ولد زيد أسلم ثقة وأما حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة فما أظهر دلالته لو سلم من عبد الله بن محرر رواية عن الزهري قال البخاري في حديثه هذاعبد الله بن محرر متروك الحديث وليس في زكاة العسل شيء يصح وأما حديث الشافعي رحمه الله فقال البيهقي رواه الصلت بن محمد عن انس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن هو ابن أبي ذباب عن منير بن عبد الله عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب وكذلك رواه صفوان بن عيسى عن الحارث بن أبي ذباب قال البخاري عبدالله والد منير عن سعد بن أبي ذباب يحكي ما يدل على أن رسول الله يم يأمره بأخذ الصدقة من العسل وإنما هو شيء رآه فتطوع له به أهله قال الشافعي واختياري أن لا يؤخذ منه لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه وليست ثابتة فيه فكأنه عفو وقد روى يحيى بن آدم حدثنا حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال ليس في العسل زكاة قال يحيى وسئل حسن بن صالح عن العسل فلم ير فيه شيئا وذكر عن معاذ أنه لم يأخذ من العسل شيئا قال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ كلاهما لم يأمرني فيه رسول الله بشيء وقال الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر قال جاءنا كتاب من عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أبي وهو بمنى أن لا ياخذ من الخيل ولا من العسل صدقة وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وذهب أحمد وأبو حنيفة وجماعة إلى أن في العسل زكاة ورأوا أن هذه الآثار يقوي بعضها بعضا وقد تعددت مخارجها واختلفت طرقها ومرسلها يعضد بمسندها وقد سئل أبو حاتم الرازي عن عبد الله والد منير عن سعد بن أبي ذباب يصح حديثه قال نعم قال هؤلاء ولأنه يتولد من نور الشجر والزهر ويكال ويدخر فوجبت فيه الزكاة كالحبوب والثمار قالوا والكلفة في أخذه دون الكلفة في الزرع والثمار ثم قال أبو حنيفة إنما يجب فيه العشر إذا أخذ من أرض العشر فإن أخذ من أرض الخراج لم يجب فيه شيء عنده لأن أرض الخراج قد وجب على مالكها الخراج لأجل ثمارها وزرعها فلم يجب فيها حق آخر لأجلها وأرض العشر لم يجب في ذمته حق عنها فلذلك وجب الحق فيما يكون منها وسوى الإمام أحمد بن الأرضين في ذلك وأوجبه فيما أخذ من ملكه أو موات عشرية كانت الأرض أو خراجية ثم اختلف الموجبون له هل له نصاب أم لا على قولين أحدهما أنه يجب في قليله وكثيره وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله والثاني أن له نصابا معينا ثم اختلف في قدره فقال أبو يوسف هو عشر أرطال وقال محمد بن الحسن هو خمسة أفراق والفرق ستة وثلاثو رطلا بالعراقي وقال أحمد نصابه عشرة أفراق ثم اختلف أصحابه في الفرق على ثلاثة أقوال أحدها إنه ستون رطلا والثاني انه ستة وثلاثون رطلا والثالث ستة عشر رطلا وهو ظاهر كلام الإمام أحمد والله أعلم
فصل
وكان إذا جاءه الرجل بالزكاة دعا له فتارة يقول اللهم بارك فيه وفي إبله وتارة يقول اللهم صل عليه ولم يكن من وكان يسم إبل الصدقة بيده وكان يسمها في آذانها وكان إذا عراه أمر استسلف الصدقة من أربابها كما استسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين
المقال التالى