فصل في غزوة تبوك
وكانت في شهر رجب سنة تسع قال ابن إسحاق وكانت في زمن عسرة من الناس وجدب من البلاد وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون شخوصهم على تلك الحال وكان رسول الله قلما يخرج في غزوةإلا كنى عنها وورى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد الشقة وشدة الزمان
فقال رسول الله ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أحد بني سلمة يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر فقال رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله وقال قد أذنت لك ففيه نزلت الآية ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) ( التوبة 49 ) وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر فأنزل الله فيهم ( وقالوا لا تنفروا في الحر ) الآية ( التوبة 81 ) ثم إن رسول الله جد في سفره وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها قلت كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها وألف دينار عينا وذكر ابن سعد قال بلغ رسول الله أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وجاء البكاؤون وهم سبعة يستحملون رسول الله فقال لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون وهم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى المازني وعمرو بن عنمة وسلمة بن صخر والعرباض بن سارية وفي بعض الروايات وعبد الله بن مغفل ومعقل بن يسار وبعضهم يقول البكاؤون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة وابن إسحاق يعد فيهم عمرو بن الحمام بن الجموح
وأرسل أبا موسى أصحابه إلى رسول الله ليحملهم فوافاه غضبان فقال والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه ثم أتاه إبل فأرسل إليهم ثم قال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير
فصل
وقام علبة بن زيد فصلى من الليل وبكى وقال اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابي فيها من مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس فقال النبي أين المتصدق هذه الليلة فلم يقم إليه أحد ثم قال أين المتصدق فليقم فقام إليه فأخبره فقال النبي أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فلم يعذرهم قال ابن سعد وهم اثنان وثمانون رجلا وكان عبدالله بن أبي بن سلول قد عسكر على ثنية الوادع في حلفائه من اليهود والمنافقين فكان يقال ليس عسكره بأقل العسكرين واستخلف رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وقال ابن هشام سباع بن عرفطة والأول أثبت فلما سار رسول الله تخلف عبدالله بن أبي ومن كان معه وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك وهلال ابن أمية ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة السالمي وأبو ذر ثم لحقه أبو خيثمة وأبو ذر وشهدها رسول الله في ثلاثين ألفا من الناس والخيل عشرة آلاف فرس وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصلاة وهرقل يومئذ بحمص
قال ابن إسحاق ولما أراد رسول الله الخروج خلف علي بن أبي طالب على أهله فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا وتخففا منه فأخذ علي رضي الله عنه سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلقتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فرجع علي إلى المدينة ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله أياما إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه وقد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال رسول الله في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله ففعل حتى إذا دنا من رسول الله وهو نازل بتبوك قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله كن أبا خيثمة قالوا يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله فقال له رسول الله أولى لك يا أبا خيثمة فأخبر رسول الله خبره فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير وقد كان رسول الله حين مر بالحجر بديار ثمود قال لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضؤوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له ففعل الناس إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيىء فأخبر بذلك رسول الله فقال ألم أنهكم أن لا يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله حين قدم المدينة قلت والذي في صحيح مسلم من حديث أبي حميد انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم منكم أحد فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيىء
قال ابن هشام بلغني عن الزهري أنه قال لما مر رسول الله بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم قلت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله قال لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم مثل ما أصابهم
وفي صحيح البخاري أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه وفي صحيح مسلم أنه أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يهريقوا الماء ويستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وقد رواه البخاري أيضا وقد حفظ راويه ما لم يحفظه من روى الطرح وذكر البيهقي أنه نادى فيهم الصلاة جامعة فلما اجتمعوا قال علام تدخلون على قوم غضب الله عليهم فناداه رجل فقال نعجب منهم يا رسول الله فقال ألا أنبئكم بما هو أعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم استقيموا وسددوا فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا
قال ابن إسحاق وأصبح الناس ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى رسول الله فدعا رسول الله فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء
ثم إن رسول الله سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فقال زيد بن اللصيت وكان منافقا أليس يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال رسول الله إن رجلا يقول وذكر مقالته وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها وهي فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فأتوه بها وفي طريقة تلك خرص حديقه المرأة بعشرة أوسق ثم مضى رسول الله فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون تخلف فلان فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه
وتلوم على أبي در بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا ونزل رسول الله في بعض منازله فنظر ناظر من الملسمين فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال رسول الله كن أبا ذر فلما تأمله القوم قالوا يا رسول الله والله هو أبو ذر فقال رسول الله رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده قال ابن إسحاق فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي عن عبدالله بن مسعود قال لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن غسلاني وكفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق وأقبل عبدالله بن مسعود في رهط معه من أهل العراق عمارا فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه قال فاستهل عبد الله يبكي ويقول صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم حدثهم عبدالله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله في مسيره إلى تبوك
قلت وفي هذه القصة نظر فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في صحيحه وغيره في قصة وفاته عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه عن أم ذر قالت لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال ما يبكيك فقلت ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا ولا يدان لي في تغييبك قال أبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل فوالله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق فقلت أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق فقال اذهبي فتبصري قالت فكنت أسند إلى الكثيب أتبصر ثم أرجع فأمرضه فبينا أنا وهو كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم قالت فأشرت إليهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي فقالوا يا أمة الله مالك قلت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا ومن هو قلت أبو ذر قالوا صاحب رسول الله قلت نعم ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم أبشروا فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة والله ما كذبت ولا كذبت إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار قال أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي قال أنت فكفني فكفنه الأنصاري وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان رجعنا إلى قصة تبوك وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير قال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه وقال رسول الله لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بل قلتم كذا وكذا فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك فأتوا رسول الله يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت كنا نخوص ونلعب فأنزل الله فيهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ( التوبة 65 ) فقال مخشي بن حمير يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الآية وتسمى عبدالرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر
وذكر ابن عائذ في مغازيه أن رسول الله نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه فاغترف رسول الله غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت فهي كذلك حتى الساعة قلت في صحيح مسلم أنه قال قبل وصوله إليها إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار
فمن جاءها فلا يمسن من مائها شيئا حتى آتي قال فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله هل مسستما من مائها شيئا قالا نعم فسبهما النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء وغسل رسول الله فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس ثم قال رسول الله يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملىء جنانا
فصل
ولما انتهى رسول الله إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية وأتاه أهل جربا وأذرح فأعطوه الجزية وكتب لهم رسول الله كتابا فهو عندهم وكتب لصاحب أيلة بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بحر أو بر