إن رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم كانت هي الشمس التي بددت الظلماء ، و النور الذي قضى على الجاهلية الجهلاء ، فكانت الرحمة المهداة ، التي زرعت في قلوب الناس معنى الحياة ، فجعلت الأبصار تبصر بعد عماها ، و تميز الحقيقة الكبرى في هذا الوجود بعدما غشاها ما غشاها ، و تبرز حقيقة أن الناس ما خلقوا من أجل التلذذ بمتع الدنيا فحسب ، بل خلق ربنا الخلق لغاية ، و أوجدهم سبحانه و تعالى لحكمة ، فوراء الموت بعث ، و بعد البعث إما جنة أو نار : "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (المؤمنون / 115 : 116) ، و قال عز و جل : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ " (الذاريات / 56) .
لذا أراد الله العليم الحكيم سبحانه و تعالى أن يهيئ هؤلاء العرب لحمل هذه الرسالة العظيمة ، فهيأ سبحانه الأسباب بالإعداد و الإمداد و التأهيل و الترتيب ليحملوا هذه الرسالة ، و لكن كيف كان ذلك ؟ تعالى نتأمل …
المؤهلات التى أهلت العرب لحمل الرسالة :
إنك تتعجب حين تجد أن أغلب من تكلم عن العرب قبل البعثة يصورهم همجا رعاعا ، يسفكون الدماء و يغتصبون الأموال و يقطعون الطريق و يشربون الخمور ، و لكن يجب أن تعلم أن الأمر لم يكن على هذا النحو من السوء وحده ، بل كانت هناك جوانب خير و نور و بر في حياة العرب إلى جانب ذلك ، و قد علمنا الله تعالى الإنصاف و العدل في الحكم و التقييم فقال عز و جل : " وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة /8) .
فبالعدل نقول : إنهم كان لديهم أيضا من الصفات و المؤهلات التى أعدوا بها خصيصا لحمل هذه الدعوة ما جعلهم يحملونها و يكونون أحق بها و أهلها ، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : " لقد جاء الإسلام و في العرب بضع و ستون خصلة كلها زادها الإسلام شدة ، منها قِرَى الضيف ، و حسن الجوار ، و الوفاء بالعهد (1) ، فكانت فيهم سمات و خصال من الخير كثيره أهلتهم لحمل راية الإسلام ، و إن كانوا كسائر البشر حين يفقدون و يعدمون الهداية الربانية تظهر فيهم وحشية الصفات التي ذكرت كثيرا عنهم قبل الإسلام ، و لكن لكي تكتمل الصورة لابد أن أنقل لك الوجه الآخر ، فمن تلك الصفات الحسنة و الخصال الطيبة و السمات الجميلة :
1- الذكاء و الفطنة
فقد كانت قلوبهم طيبة صافية لم تدخلها الفلسفات و الأساطير كالحاصل في الشعوب الهندية ، و الرومانية ، و اليونانية ، و الفارسية ، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود فظلت على الفطرة ، فهم طيلة تاريخهم لم يلتفتوا إلى الأساطير و الفلسفات ، و إنما عكفوا على لغتهم العربية و لم ينشغلوا بغيرها ، و قد كان من عمل الله لهذا الدين اعتزازهم بعربيتهم و بلغتهم ، فلم يلتفتوا إلى غيرها ، و إن شئت فقل : لم يعجبوا بغيرها و لم يستهوهم غيرها فلأقبلوا على لغتهم فجعلوها كل شأنهم .
و كان هذا الإعداد من الأهمية بمكان لحفظ هذا الدين قرآنا و سنة ، فلصفاء قلوبهم و بقائها على الفطرة انقدحت عندهم قريحة الحفظ و الذكاء في هذا الاتجاه فحسب ، فكان أحدهم من المهتمين بالشعر و الأدب يحفظ القصيدة الطويلة المكونة من مائة بيت فيلقيها في مجلس أو في الأسواق ، و تجد من يسمعها إذا سمعها مرة واحدة حفظها أيضا .
فلما جاء الإسلام وجه هذه القريحة في الحفظ و الذكاء إلى حفظ الدين و حمايته ، فكانت قواهم الفكرية و مواهبهم الفطرية مدفونة فيهم لم تستهلك في فلسفات خيالية ، و لا في جدل بيزنطي عقيم ، ولا في مذاهب كلامية معقدة ، و لك مثلا أن تعلم من اتساع لغتهم الذي هو دليل على قوة حفظهم و ذاكرتهم و حدة ذكائهم ، أنه كان عندهم للعسل ثمانون اسما ، و للثعلب مائتان ، و للأسد خمسمائة ، و للجمل ألف اسم ، ولا شك أن أستيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة و قادة ، و قد بلغ بهم الذكاء و الفطنة إلى الفهم بالإشارة و بأقل إشارة فضلا عن العبارة ، و الأمثلة على ذلك كثيرة ، و لكن المقصود هنا هو قولي : إن الله منحهم الذكاء و الفطنة و حباهم من الفهم و الحفظ ما أهلهم به لحمل دعوة الإسلام بإتقان و قوة و أمانة ، و هذا ما تحفظ به أى دعوة .
----------------------------
1- " مكارم الأخلاق " لابن أبي الدنيا (35)
المقال السابق
المقال التالى