كثيرا ما يعتمد كتاب السيرة إلى ذكر فصل في حالة العرب قبل الإسلام ، و قد تعمدت أن أثبت هذا الفصل و لكن بعنوان : كيف هيأ الله الأرض لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
و ذلك لأمرين :
أولا : لإنصاف العرب ، لأن كل من يذكر العرب يذكر همجيتهم و وحشيتهم و جاهليتهم ، و لكن من الإنصاف أن نشير إلى مناقب العرب و فضائلهم و أخلاقهم أيضا ، فقد صار حب العرب بعد الإسلام من الدين .
ثانيا : لتوضيح و تأكيد و توثيق أن من سنة الله عز و جل في هذا الدين ألا يقوم على الخوارق و المعجزات وحدها ، و إنما الأصل أن يقوم على الأسباب الواقعية ، بل و المادية و الحسية في التمكين لهذا الدين ، و لعل هذا المعنى يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، و إنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (1) ، فالمعجزات و الكرامات حاصلة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم و مسيرة دعوته بلا شك ، و مسيرة دعوة الإسلام من بعده أيضا ، و لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعتمد عليها ، بل كان يسارع في الأسباب في كل شئ ، و تأمل الهجرة و الغزوات مثلا .
فأردتُ ان اذكر كيف صنع الله للنبي محمد صلى الله عليه وسلم و قومه الذين يتلقون هذا الدين و يحملونه ، و كيف صنع الله له دار بعثته و لغته و أخلاق قومه .و كيف هيأ له دار هجرته و أهل نصرته ، كان ذلك كله قبل أن يبعث بسنين إثباتا لهذه السنة ، و تعليما لهذه الأمة .
و في هذا أيضا إشارة خطيرة و مهمة لأهل عصرنا الذين يطلبون التمكين و يحلمون به و يتمنونه ، و يسألون الله ليل نهار أن يقر أعينهم به ، إلاأنه لابد من الأخذ بالأسباب و لابد من تهيئة الأرض بكل كائناتها الحية لتصلح لحمل هذا الدين و لاستقبال ذاك التمكين
------------------
(1) متفق عليه ، أخرجه البخاري : ( 4696) ، ك : فضائل القرآن ، باب : كيف نزل الوحي و أول ما نزل ، و مسلم (152)، ك : الإيمان ، باب : وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
المقال السابق
المقال التالى