إنَّ الحمدَ لله، نَحمَده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فإنَّ الله جل وعلا قد كمَّل نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وشرَّف مقامه وعظَّم جنابه، وأوجب على الناس كافة اتباعه، وقد حاز الفضل والشرف كل مَن اتَّبعه، واقتفى أثره، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]، ويقول عزَّ من قائل: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وإنَّ المتأمل في سيرة هذا النبي الكريم وفي شمائله الحميدة وصفاته الشريفة، يُدرك ما حباه الله تعالى من أنواع الكمالات، وما أيَّده به من المعجزات، وما عظَّم به جنابه وشرَّف مقامه، وهذا يوجب على المسلم أن يكون قريبًا من هذه السيرة الشريفة؛ لأنها تُبيِّن المنهج الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في عبادته لربه، وفيما يمضي فيه حياته، حتى يصل إلى تلك الدرجة التي أمر الله تعالى بها: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
وإن تفاصيل سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام كلها آيات وعبر، وكلها خير وبِشر، سيرة شريفة كريمة، لا يَملِك المتأملُ فيها إلا أن يُعظِّم جناب هذا النبي الكريم، وأن يَحمَد الله تعالى أن جعَله من أتباعه، وأن يبذل قُصارى جهده لاقتفاء أثره، صلوات ربي وسلامه عليه.
وفي هذه الدقائق نقف وإياكم أيها الإخوة المؤمنون بصحبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مرحلةٍ من مراحل هجرته من مكة إلى المدينة، فإنَّ هذه الهجرة الشريفة التي أذِنَ الله تعالى بها لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها آياتٌ وعبر، وفيها دلائلُ وبِشر، ينبغي أن تكون محلَّ العناية والاستفادة والتأمُّل.
ومن جمله ما كان في مسير نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيره من مكة إلى المدينة - أنَّه مرَّ بسيدةٍ من سيدات العرب وامرأةٍ من كرامهم، هذه المرأة التي مرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تك إذ ذاك مسلمة، ولكنها رأت من هذا الرجل النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، ما أوجب عليها أن تؤمن به وتُصدِّقه، لما رأته من مخايل النبوة والمعجزات العظيمة التي باتت تَتْرَى بين ناظريها، وجزى الله هذه السيدة الكريمة خير الجزاء وأوفاه، فإنها أُوتيت من البيان شيئًا عظيمًا، حينما وصفت نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم وصفًا دقيقًا، يَعجِز عن أن يقول مثلَه كبارُ البلغاء.
وتأمل يا عبد الله حينما تسوق هذه المرأة هذه الصفات لنبيك محمدٍ عليه الصلاة والسلام، تأمَّلها، ولتكن على حضور ذهنٍ منك، لعل الله تعالى يوفقك لأن تُدرك هذه الصفات التي ذكرتها هذه المرأة، فتكون حاضرة في ذهنك، لعل الله يُكرمك برؤية نبيك محمد عليه الصلاة والسلام في المنام، فإن رأيته على هذه الصفات فقد رأيته كذلك، ويا بشراك، فإن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام إذا رآه المؤمن على صفاته رؤية حق؛ لأن الشيطان لا يتمثل به كما قال عليه الصلاة والسلام، ولعلها أن تكون مقدمةً لرؤيتك يا عبد الله لهذا النبي الكريم، حينما تَقدُمُ على حوضه الشريف، فتنال هذه البركة العظمى والسعادة الكبرى التي لا تظمأ بعد شربك من حوضه أبدًا، جعلنا الله وإياكم كذلك.
هذه المرأة وهي السيدة عاتكة بنت خالد، وعُرِفت بكُنيتها أم معبد رضي الله عنها وأرضاها، وقد أورد حديثها عدد من الأئمة في مُصنَّفاتهم، فحديثها حديثٌ صحيحٌ بشواهده؛ حيث رواه الإمام البغوي في (شرح السنة)، وفي كتابه (الأنوار في شمائل النبي المختار)، وخرَّجه الحاكم في (المستدرك)، وقال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله: إنه مشهور ومروي من طرق يشد بعضُها بعضًا.
تقول أم معبد رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة خرج مهاجرًا إلى المدينة، هو وأبو بكر رضي الله عنه، ومولى أبي بكر وهو عامر بن فهيرة، ودليلهما عبدالله بن أريقط الليثي، مرُّوا على خيمتي أم معبد الخزاعية - وكانت برزة؛ تعني: أنها كانت امرأة كهلة كبيرة في السن، لا تحتجب احتجاب الشواب، تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم - فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مُرملين مُسنتين؛ يعني: أنه قد نَفِدَ زادهم، وأصابهم القحط، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ في كسر الخيمة - يعني في جانبها - فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاةٌ خلفها الجهد عن الغنم - تعني أنها هزيلة لا تقدر على المشي مع الغنم للرعي - فذهب الغنم وبقِيت هي، قال عليه الصلاة والسلام: (هل بها من لبن؟) قالت: هي أجهد من ذلك، تعني أنها لضعفها لا يمكن أن يكون بها من لبن، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتأذنين لي أن أحلبها؟)، وتأملوا في هذا الأدب النبوي العظيم، حينما يستأذن من هذه المرأة في حلالها، ولا يهجم عليه، ولا يتصرَّف تصرف الفضولي، مع أنه يعلم أنه مهما أتى شيئًا مما للمسلمين، أو ممن يعظمونه ويجلونه كحال هذه المرأة، فإنهم لن يمانعوا، بل إنهم فرحون محبورون.
وتأملوا هذا النبي الكريم حينما ينادي هذه المرأة بكُنيتها أم معبد احترامًا وإجلالًا وتقديرًا، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن لطيفًا مقدرًا لكل مَن يلتقي بهم، لا من رجل ولا امرأة، لا من مسلم ولا غير مسلم، فهذا حق ينبغي أن يصدر من الإنسان الذي تمثل أخلاق الإسلام، أن يقدِّر من يلتقي به، وأن يتحدث معه بما يليق.
فلما استأذن عليه الصلاة والسلام: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا، فاحلبها.
وتأملوا هذه المرأة حينما تفدي رسول الله بأبيها وأمها، مع أنه أول لقاء بينهما، وما ذلك إلا لأنه أسَر قلبها، وحلَّ بسويدائه حبًّا وتقديرًا لأمرين: لَما رأت عليه من مخايل النبوة ومهابة الفضل والشرف، ولما كان يتعامل معها من أدب واحترام، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح بيده ضرعها، وسمى الله جل ثناءه، ودعا لها في شاتها، فتفاجَّت عليه؛ أي: فتحت ما بين رجليها للحلب؛ لكثرة ما اجتمع في ضرعها من اللبن ببركة دعائه ومسحه عليه الصلاة والسلام، قالت: ودرَّت واجترت، فدعا بإناء يُربض الرهط؛ تعني إناء يكفي لإشباع رهطٍ من الناس من ثلاثة إلى عشرة، حتى إنهم إذا شربوه تثاقلوا، فربضوا وناموا لكثرة ما شربوا، قالت: فحلب بها ثجًّا؛ أي: إن الحليب يصب من ضرعها ويسيل سيلانًا لوفرته حتى علاه البهاء؛ أي: إنه امتلأ الإناء بهذا الحليب، وصار أعلاه رغوة اللبن اللامعة، قالت: ثم سقاها حتى رويت، سقى رسول الله أم معبد حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم.
فما أعظمه من تواضع وما أكرمه من تعامل! بدأ بصاحبة الدار، ثم أعطى أصحابه، يخدمهم وهو أشرف الخلق، ثم شرب بعدهم، فلم يتقذر مما شربوا، وهو القائل: (إن سؤر المؤمن لا ينجس)، فهذا تواضع جم، وخلق أشم من هذا النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.
قالت أم معبد: ثم أراضوا؛ أي: شربوا مرة بعد مرة، وهو ما يسميه العرب العلل بعد النهل، قالت: ثم حلب فيه ثانيًا بعد بدءٍ حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، وبايعها وارتحلوا عنها، فقلَّ ما لبث حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا، بدت عظامها لهزالها وضَعفها، يتساوكن هزالًا، مخهن قليل، تتمايل هذه الأعنز من شدة الضعف، تقول: إنه أتى ضحًى وذكرت رضي الله عنها، قالت: إن مخهن قليل وذلك لضَعفهن، وما هم فيه من الجدب، فلما رأى أبو معبد اللبن عند زوجه أم معبد عجب، وقال: من أين لكِ هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب؛ يعني: أنها بعيدة العهد عن الرعي، لا يمكن أن تدرَّ لبنًا؟! قال: والشاة عازب حيال، إنها أيضًا لم تحمل حتى يكون فيها هذا الحليب؛ لأنه من المعلوم أن الحليب واللبن يثج من ضرع الشاة وما أشبهها بعد ولادتها، فهذه عنز لم تحمل حتى يثج ضرعها وهي كذلك أيضًا ضعيفة هزلى، يقول رضي الله عنه: من أين لك اللبن والشاة عازب حيال لا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله إنه مرَّ بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، لم تعبه فجله؛ أي: ليس بضخم البطن، ولم تزر به صقله ليس بنحيل، وسيم قسيم؛ تعني: حسنٌ وضيءٌ بيِّن الحسن، في عينيه دعج؛ تعني: بذلك شدة سواد العين، وفي أشفاره وطف، تقصد أن شعر رمشه طويل منثنٍ، وفي صوته صحل؛ تعني: بذلك حدة وصلابة من غير شدة، وهي كما يقول العلماء: البحة اليسيرة، وهي أبلغ في الصوت من أن يكون حادًّا، قالت: وفي عنقه سطع؛ تعني: بذلك أن في عنقه شيئًا من الطول، وكذلك نور وبهاء، وفي لحيته كثاثة تعني كثرة والتفاف، أزج أقرن؛ تعني: بذلك أنه متقوس الحاجبين مع طولهما ودقتهما واتصالهما، تقول رضي الله عنها: إن صمت علاه الوقار، وإن تكلم سما؛ أي: ارتفع برأسه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأجلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرنَ، تصف بذلك كلامه في حسنه وبلاغته وفصاحته وبيانه وحلاوته، قالت: تصف الرسول عليه الصلاة والسلام: ربعةٌ لا يأس من طول؛ أي: إنه إلى الطول أقرب ولا تقتحمه عين من قصر، لا تحتقره العين حين تشاهده؛ لأنه إلى الطول أقرب، وليس بالقصير، بل هو مهاب مقبول، قالت: غصنٌ بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود، وتعني بذلك أن أصحابه يجتمعون عليه ويخدمونه ويسرعون في طاعته، وما ذلك إلا لجلالته عندهم، وعظمته في نفوسهم، ومحبتهم له، قالت أم معبد: لا عابس ولا مُفند صلى الله عليه وسلم، العابس هو الكالح الوجه، والمفند هو المنسوب إلى الجهل، وقلة العقل، وتعني بذلك أنه كان جميل المعاشرة حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه، وهو حبيب إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال أبو معبد بعد أن سمع هذا الوصف البليغ: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلنَّ إن وجدت إلى ذلك سبيلًا.
تأملوا هذا العقل الراجح لما سمِع من هذا الخبر عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والمعجزات التي تحدث تترى بين يدي زوجه، والوصف البليغ الذي هو وصف مقام النبوة ووقارها، تمنى صحبته وأقسم أن يصحبه، فهذا هو الشرف الرفيع والمقام العالي البليغ.
جاء في تمام الحديث بعد أن قال أبو معبد ما قال: ولا أفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا، وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول: