كلماتي هذه أخطها إليكنَّ يا شقائق الرجال، يا مَن كان أول مَن آمن بالإسلام منكن، وأول شهيد في الإسلام منكن، وأول مَن توجه إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة منكن، يا من رضيتن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، ويا من ارتفعتنَّ وسمَوْتُنَّ بالإيمان فوق الهوى.
أين أنتن من مسيرة النصرة اليوم؟ وأين أنتن من نساء النصرة الأُوَل؟
أين أنتن من أُمِّكُنَّ خديجة - رضي الله عنها - أول امرأة؛ بل أول إنسان في مسيرة النصرة المباركة، نصرة النبي الكريم - عليه وآله الصلاة والسلام - ونصرة شرع الله الحكيم، والمنهج القويم، كانت للنبي وزيرَ صدقٍ في الإسلام، يشكو إليها، فتواسيه، وتشد من أزره، وتهدئ من روعه، وتصدِّقه فيما يقول، فخفَّف الله بذلك عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع شيئًا مما يكرهه مِن ردٍّ عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته، وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس - رضي الله عنها وأرضاها.
وكانت معه في شِعب أبي طالب وقت الحصار، محبوسين محصورين، مضيقا عليهم، ومقطوعًا عنهم الميرة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد، وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، فصبرتْ واحتسبت، فكان جزاؤها أنْ كانت من خير نساء العالمين: ((أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون))؛ (الألباني - "السلسلة الصحيحة": 1508)، وأنها بُشِّرت ببيتٍ في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب: ((أتاني جبريل فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي قد أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخبَ فيه ولا نصب))؛ (صحيح، الألباني - "صحيح الجامع": 69).
وبقيت ذكراها في قلب النبي الكريم - عليه وآله الصلاة والسلام - لم ينسَها، ولم ينس مواقفها الجليلة، ولا عشرتها الهنية، فكان دائمَ الذِّكرِ لها، والبر برفيقاتها، حتى إن عائشة - رضي الله عنها - غارت مرة، وقالت: "ما غرتُ على أحد من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذلك إلا لكثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وإن كان لَيذبحُ الشاة، فيتتبع بها صدائق خديجة، فيهديها لهن"؛ (صحيح، الألباني - "صحيح الترمذي": 2017)، وقالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذُكر خديجة، أثنى عليها بأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا، فقلت له: ما أكثر ما تذكرها! حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرًا منها، قال: ((ما أبدلني الله خيرًا منها، وقد آمنتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبنني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، إذ حرمني أولاد النساء أيضا"؛ "إسناده لا بأس به، ابن كثير - "البداية والنهاية": 3/126 )، فلَكِ منا يا أمَّنا كل حب، وإجلال، وامتنان.
وأين أنتن مِن سمية؟ مَن صبرت على التعذيب برغم أنوثتها، فلم تهن تحت مطارق المحنة والفتنة، ولاقت ما لاقت من العنت والألم، والشدة والضر، على أيدي زبانية قريش، فكان السلوان: ((صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة))؛ (حسن صحيح، الألباني - "فقه السيرة": 103)، إلى أن فاضت روحها إلى بارئها، تشهد بأنها أول مَن قُتل في سبيل نصرته، ونصرة شريعته، فأية عزة هذه؟ وأي فخر، وأية كرامة؟! وأي استعلاء وترفُّع عن عالم الطين؟! فهذا هو الطريق: إيمان وجهاد، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وتوجُّه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر، ثم يجيء النعيم.
يقول سيد قطب - يرحمه الله -: "إن الصراع والصبر عليه يهب النفوسَ قوةً، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذٍ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقَون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة، انحاز إليهم مَن كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين، وأكبر المعاندين، على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته، يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قُوى الأرض، وشرورها، وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرجح جميعَ الآلام، وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته، ودينه وشريعته، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل".
وأين أنتن - أخواتي - من ذات النطاقين، أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها؟ من كانت تأتي النبي - عليه وآله الصلاة والسلام - وأباها أبي بكر - رضي الله عنه - بما يصلحهما من الطعام كلَّ مساء، وهما في غار ثور في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة، وتحملت العنت والمشقة وهي تقطع تلك المسافة ذهابًا وإيابًا.
عن أسماء قالت: "صنعتُ سفرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي حين أراد أن يهاجر، فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطهما، فقلت لأبي: ما أجد إلا نطاقي، قال: شقيه باثنين، فاربطي بهما، قال: فلذلك سميت ذات النطاقين"، وقالت - رضي الله عنها -: "لما توجَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، حمل أبو بكر معه جميع ماله، خمسة آلاف أو ستة آلاف، فأتاني جدي أبو قحافة، وقد عَمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه، فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، فعمدتُ إلى أحجار فجعلتهن في كوة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده ووضعتها على الثوب، فقلت: هذا تركه لنا، فقال: أما إذ ترك لكم هذا، فنعم".
وعنها أنها قالت: "لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوكِ يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلتُ: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي"، فأية عقيدة هذه التي كانت تحملها؟ وأي إيمان وجلد في سبيل نصرة الله ورسوله؟!
وهذه الخنساء، مثال مشرق يصدح بالأنوار في مسيرة النصرة، قدمت أولادها الأربعة في معركة القادسية، تحرضهم على القتال وعدم الفرار؛ لتفخر بهم بعد أن احتسبتهم من الشهداء، فأي أُمٍّ هذه؟ وأي إيمان ويقين في قلبها؟!