الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ بين يَدَيِ السَّاعة بالسَّيف، حتى يُعبَدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وجُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِلَ الذَّلُّ والصَّغار على مَنْ خالَف أمري، ومَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم»[1]. هذا الحديث اشتمل على حِكَم عظيمة، وجُمَل نافعة، ينبغي أن نقف عندها وقفةَ تأمُّل وتدبُّر، وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالةٍ صغيرةٍ، اختصرتُ كلامَه فيها في هذه الكلمة: قوله: «بُعِثْتُ بالسَّيْف بين يَدَيِ السَّاعة»؛ يعني: أنَّ الله بعثه داعيًا إلى توحيده بالسَّيف بعد دعائه بالحُجَّة؛ فمَنْ لم يَسْتَجِبْ إلى التوحيد بالقرآن والحُجَّة والبيان، دُعِيَ بالسَّيف؛ قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، وفيه إشارةٌ إلى قُرْب بعثَته - صلى الله عليه وسلم - من قيام السَّاعة. فعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ أنا والسَّاعةَ كهاتَيْن»، قال: وضَمَّ السبَّابة والوسطى[2]. وقوله: «حتَّى يُعْبَد اللهُ وحده لا شريك له»: هذا هو المقصود الأعظم من بعثَتِه وبعَثْة الرُّسُل من قبله؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]؛ بل هذا هو المقصود من خَلْق الخَلْق وإيجادهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فما خَلَقَهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأَخَذَ عليهم العهدَ لمَّا استخرجهم من صُلْبِ آدمَ على ذلك؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا......} [الأعراف: 1722]. وقوله: «وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي»: فيه إشارةٌ إلى أن الله لم يَبْعَثْهُ بالسَّعي في طلب الدُّنيا، ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بَعَثَه داعيًا إلى توحيده بالسَّيف، ومن لازِمِ ذلك: أن يقتل أعداءه الممتنعِين عن قَبول دعوة التوحيد، ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم؛ فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه، فإنَّ المال إنما خَلَقَه لبني آدمَ؛ يستعينون به على طاعته وعبادته، فمَنِ استعان به على الكفر بالله والشِّرْك به، سَلَّط الله عليه رسولَه وأتباعَه، فانتزعوه منه، وأعادوه إلى مَنْ هو أوْلى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته؛ ولهذا يسمَّى الفَيْء لرجوعه إلى مَنْ كان أحقَّ به، ولأَجْلِه خُلِقَ. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، وهذا مما خَصَّ الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم – وأمَّته؛ فإنه أَحَلَّ لهم الغنائم. قوله: «وجُعِلَ الذُّلُّ والصَّغَار على مَنْ خالَف أمري»: هذا يدلُّ على أنَّ العزَّ والرِّفعة في الدنيا والآخِرة بمتابعة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامتثال متابعة أمر الله تعالى؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]؛ فالذِّلَّة والصَّغار تحصل بمخالفة أمر الله. والمخالِفون لأمر الله ورسوله ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الأول: مخالفةُ مَنْ لا يعتقد طاعةَ أمره؛ كمخالفة الكفار وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم تحت الذِّلَّة والصَّغار؛ ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يُعْطُوا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون، وعلى اليهود الذِّلَّة والمَسْكَنَة؛ لأن كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كفرُ عناد. الثاني: مَنِ اعتقدَ طاعَتَهُ، ثم يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية - فله نصيبٌ من الذُّلِّ والصَّغار؛ قال الحسنُ البَصْريُّ: "إنهم وإن طَقْطَقَتْ بهم البِغال، وهَمْلَجَتْ بهمُ البراذينُ، إنَّ ذُلَّ المعصية لفي قلوبهم؛ أبَى اللهُ إلاَّ أن يُذِلَّ مَنْ عصاه". وقال الإمام أحمد بن حنبل: "اللهم أعِزَّنا بالطاعة، ولا تُذِلَّنا بالمعصية". قال الشاعر أبو العتاهية: أَلا إِنَّمَا التَّقْوَى هِيَ العِزُّ والكَرَمْ وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَمْ وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ إِذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ الثالث: مَنْ خالَف أمرَه من أهل الشُّبهات - وهم أهل الأهواء والبِدَع - فكلُّهم لهم نصيبٌ من الذُّلِّ والصَّغار بحسب مخالفتهم لأوامره؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وأهل البِدَع والأهواء كلُّهم مفْتَرونَ على الله، وبدعتهم تتغلَّظ بحسب كثرة افترائهم عليه؛ قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. قال ابن رجبٍ الحنبلي - رحمه الله -: "ومن أعظم ما حصل به الذُّلُّ من مخالفته أمرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: تركُ ما كان عليه من جهاد أعداء الله، فمَنْ سَلَكَ سبيلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد عَزَّ، ومَنْ تَرَكَ الجِهادَ مع قُدْرَتِه عليه ذَلَّ. عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تبايَعْتُم بِالعِينَة، وأخَذْتم أذنابَ البَقَر، ورَضِيتم بالزَّرْع، وتركتم الجهاد - سلَّط الله عليكم ذُلاًّ، لا ينزعه حتى ترجِعوا إلى دينكم»[3]. ورأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سِكَّةَ الحَرْث فقال: «ما دَخَلَتْ دارَ قوْمٍ؛ إلاَّ دخلها الذُّلُّ». فمَنْ ترك ما كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد مع قدرته، واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة - حصل له الذُّلُّ؛ فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرَّمة"[4]. اهـ. قوله: «ومَنْ تشبَّه بقوْمٍ، فهو منهم»، هذا يدلُّ على أمرَيْن: أحدهما: التشبُّه بأهل الشرِّ؛ مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وَبَّخ الله مَنْ تَشَبَّهَ بهم في شيءٍ من قبائحهم؛ قال تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 96]. وقد نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن التَشَبُّه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن حلق اللِّحى، وعن تسليم اليهود والنصارى، وغيرها من النواهي. الثاني: التَّشَبُّه بأهل الخير والتقوى، فهذا حَسَنٌ، وهذا مندوبٌ إليه؛ ولهذا يُشْرَع الاقتداء بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وحركاته، وذلك مقتَضى المحبَّة الصحيحة؛ فإنَّ المرء مع مَنْ أَحَبَّ، ولابد من مشاركته في أصل عمله، وإن قصر المحبُّ عن درجته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مسند الإمام أحمد (2/92). [2] صحيح البخاري (4/192) برقم (6504)، وصحيح مسلم (4/2269) برقم (2951). [3] سنن أبي داود (3/275) برقم (3462). [4] شرح حديث يتبع الميت ثلاثة لابن رجب الحنبلي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ بين يَدَيِ السَّاعة بالسَّيف، حتى يُعبَدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وجُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِلَ الذَّلُّ والصَّغار على مَنْ خالَف أمري، ومَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم»[1]. هذا الحديث اشتمل على حِكَم عظيمة، وجُمَل نافعة، ينبغي أن نقف عندها وقفةَ تأمُّل وتدبُّر، وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالةٍ صغيرةٍ، اختصرتُ كلامَه فيها في هذه الكلمة: قوله: «بُعِثْتُ بالسَّيْف بين يَدَيِ السَّاعة»؛ يعني: أنَّ الله بعثه داعيًا إلى توحيده بالسَّيف بعد دعائه بالحُجَّة؛ فمَنْ لم يَسْتَجِبْ إلى التوحيد بالقرآن والحُجَّة والبيان، دُعِيَ بالسَّيف؛ قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، وفيه إشارةٌ إلى قُرْب بعثَته - صلى الله عليه وسلم - من قيام السَّاعة. فعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ أنا والسَّاعةَ كهاتَيْن»، قال: وضَمَّ السبَّابة والوسطى[2]. وقوله: «حتَّى يُعْبَد اللهُ وحده لا شريك له»: هذا هو المقصود الأعظم من بعثَتِه وبعَثْة الرُّسُل من قبله؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]؛ بل هذا هو المقصود من خَلْق الخَلْق وإيجادهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فما خَلَقَهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأَخَذَ عليهم العهدَ لمَّا استخرجهم من صُلْبِ آدمَ على ذلك؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا......} [الأعراف: 1722]. وقوله: «وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي»: فيه إشارةٌ إلى أن الله لم يَبْعَثْهُ بالسَّعي في طلب الدُّنيا، ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بَعَثَه داعيًا إلى توحيده بالسَّيف، ومن لازِمِ ذلك: أن يقتل أعداءه الممتنعِين عن قَبول دعوة التوحيد، ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم؛ فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه، فإنَّ المال إنما خَلَقَه لبني آدمَ؛ يستعينون به على طاعته وعبادته، فمَنِ استعان به على الكفر بالله والشِّرْك به، سَلَّط الله عليه رسولَه وأتباعَه، فانتزعوه منه، وأعادوه إلى مَنْ هو أوْلى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته؛ ولهذا يسمَّى الفَيْء لرجوعه إلى مَنْ كان أحقَّ به، ولأَجْلِه خُلِقَ. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، وهذا مما خَصَّ الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم – وأمَّته؛ فإنه أَحَلَّ لهم الغنائم. قوله: «وجُعِلَ الذُّلُّ والصَّغَار على مَنْ خالَف أمري»: هذا يدلُّ على أنَّ العزَّ والرِّفعة في الدنيا والآخِرة بمتابعة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامتثال متابعة أمر الله تعالى؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]؛ فالذِّلَّة والصَّغار تحصل بمخالفة أمر الله. والمخالِفون لأمر الله ورسوله ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الأول: مخالفةُ مَنْ لا يعتقد طاعةَ أمره؛ كمخالفة الكفار وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم تحت الذِّلَّة والصَّغار؛ ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يُعْطُوا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون، وعلى اليهود الذِّلَّة والمَسْكَنَة؛ لأن كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كفرُ عناد. الثاني: مَنِ اعتقدَ طاعَتَهُ، ثم يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية - فله نصيبٌ من الذُّلِّ والصَّغار؛ قال الحسنُ البَصْريُّ: "إنهم وإن طَقْطَقَتْ بهم البِغال، وهَمْلَجَتْ بهمُ البراذينُ، إنَّ ذُلَّ المعصية لفي قلوبهم؛ أبَى اللهُ إلاَّ أن يُذِلَّ مَنْ عصاه". وقال الإمام أحمد بن حنبل: "اللهم أعِزَّنا بالطاعة، ولا تُذِلَّنا بالمعصية". قال الشاعر أبو العتاهية: أَلا إِنَّمَا التَّقْوَى هِيَ العِزُّ والكَرَمْ وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَمْ وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ إِذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ الثالث: مَنْ خالَف أمرَه من أهل الشُّبهات - وهم أهل الأهواء والبِدَع - فكلُّهم لهم نصيبٌ من الذُّلِّ والصَّغار بحسب مخالفتهم لأوامره؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وأهل البِدَع والأهواء كلُّهم مفْتَرونَ على الله، وبدعتهم تتغلَّظ بحسب كثرة افترائهم عليه؛ قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. قال ابن رجبٍ الحنبلي - رحمه الله -: "ومن أعظم ما حصل به الذُّلُّ من مخالفته أمرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: تركُ ما كان عليه من جهاد أعداء الله، فمَنْ سَلَكَ سبيلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد عَزَّ، ومَنْ تَرَكَ الجِهادَ مع قُدْرَتِه عليه ذَلَّ. عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تبايَعْتُم بِالعِينَة، وأخَذْتم أذنابَ البَقَر، ورَضِيتم بالزَّرْع، وتركتم الجهاد - سلَّط الله عليكم ذُلاًّ، لا ينزعه حتى ترجِعوا إلى دينكم»[3]. ورأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سِكَّةَ الحَرْث فقال: «ما دَخَلَتْ دارَ قوْمٍ؛ إلاَّ دخلها الذُّلُّ». فمَنْ ترك ما كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد مع قدرته، واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة - حصل له الذُّلُّ؛ فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرَّمة"[4]. اهـ. قوله: «ومَنْ تشبَّه بقوْمٍ، فهو منهم»، هذا يدلُّ على أمرَيْن: أحدهما: التشبُّه بأهل الشرِّ؛ مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وَبَّخ الله مَنْ تَشَبَّهَ بهم في شيءٍ من قبائحهم؛ قال تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 96]. وقد نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن التَشَبُّه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن حلق اللِّحى، وعن تسليم اليهود والنصارى، وغيرها من النواهي. الثاني: التَّشَبُّه بأهل الخير والتقوى، فهذا حَسَنٌ، وهذا مندوبٌ إليه؛ ولهذا يُشْرَع الاقتداء بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وحركاته، وذلك مقتَضى المحبَّة الصحيحة؛ فإنَّ المرء مع مَنْ أَحَبَّ، ولابد من مشاركته في أصل عمله، وإن قصر المحبُّ عن درجته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] مسند الإمام أحمد (2/92). [2] صحيح البخاري (4/192) برقم (6504)، وصحيح مسلم (4/2269) برقم (2951). [3] سنن أبي داود (3/275) برقم (3462). [4] شرح حديث يتبع الميت ثلاثة لابن رجب الحنبلي.
رابط المادة: http://iswy.co/e258ia
المقال السابق
المقال التالى