عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم أعمال القلوب
الكاتب محمد علي يوسف
تاريخ الاضافة 2016-11-21 21:44:28
المشاهدات 792
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

أكان ملَكًا (بفتح اللام) أم كان ملِكا (بكسرها)؟! أم أنه كان نبيًا مكلمًا؟!

سواء كان ملَكًا أو ملِكًا أو نبيًا فإن ذا القرنين بلا شك كان شخصية ثرية مبهرة تدعوك لتأملها بغض النظر عن ذلك الخلاف الشهير حول حقيقته. لقد كان ذو القرنين نموذجًا للوجه غير المعتاد للسلطة والقوة والتمكين حينما يؤتاهم بشر!

أما الوجه المعتاد والمتوقع فهو وجه فرعون والنمرود! وجه سادة عاد وملوك ثمود! وجه بختنصر وكسرى وقيصر! وجه جُل ملوك الأرض وسلاطينها.

فالأصل أن القوة والسلطان يغران صاحبهما وغالبًا ما يفسدانه ويكونان ذريعة لتجبره بعد ذلك واغتراره؛ بل ربما تألهه. ولقد استدل فرعون على ألوهيته بتلك القوة والملك والسلطان {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف:51]. وتوهم النمرود أن ملكه يؤهله ليكون صاحب تصرف في حياة العباد فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258].

هذا هو للأسف الأصل المطرد في ملوك البشر وأغنيائهم وأقويائهم لذا كان الإمام العادل من ضمن سبعة يظلهم الله بظله فهو استثناء نادر يستحق صاحبه هذه المنزلة والمقام والمكانة والمكان (ظل العرش).

حين تجتمع القوة مع الصلاح والإيمان فتكون المحصلة المبهرة والاستثنائية، ولقد كان عهد ذي القرنين أحد تلك العهود الاستثنائية: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84].

 

تمكين كامل، وملك لما بين المشرق والمغرب، وأسباب متوفرة. فهل اغتر وتكبر؟! هل طغى وتجبر؟! هل ظلم أو فجر؟!

أبدًا؛  لم يفعل وحاشاه أن يفعل!  القوة والسلطان والصولجان والأسباب المتوفرة لم تغير من نفس ذي القرنين ولم تغره أو تعكر صفو تواضعه وتجرده؛ بل استمر في سيره الدؤوب لنشر العدل في ربوع الأرض و(أتبع سببًا).

ولم يرد ذكر ذي القرنين في أي سورة في كتاب الله إلا سورة الكهف؛ تلك السورة التي هي بلا شك أنسب السور لتلك الشخصية التي يميزها أبرز ما ميز قصص أبطال سورة الكهف الآخرين. قصص وأبطال لم يذكروا من قبل ولا من بعد في أى موضع من كتاب الله. أحداث متفردة ومناطق مختلفة لن تجدها إلا في هذه السورة (سورة الكهف). فقط في سورة الكهف ستجد قصة صاحب الجنتين وستطالع ذكر الخضر وخبر أصحاب الكهف والرقيم الذين سميت السورة باسم كهفهم وطبعًا قصة ذي القرنين التي نتحدث عنها. كل هؤلاء لم يشر إليهم ولو إشارة في أى موضع آخر.

لعل أبرز ما تشترك فيه تلك القصص الأربعة وأبطالها هي الحركة: الحركة المستمرة، والسعي الدؤوب، والعمل لدين الله. إنها حركة تجعل القلب يلهث وهو يتحرك مع أصحاب الكهف إلى كهفهم هجرة بدينهم وما يلبث أن يستريح حتى يلهث مرة أخرى مع الرجل المؤمن وهو يدخل على صاحب الجنتين يدعوه ويعظه ويذكره بالله ثم يهرع القلب سريعًا مع نبي الله موسى وفتاه في رحلة طويلة حتى مجمع البحرين يجوب قفارها موسى عليه السلام طالبًا للعلم والفهم وتتلاحق الأنفاس أكثر مع رحلات الملك العادل ذى القرنين وهو يجوب مشارق الأرض ومغاربها لنشر العدل ونصرة المظلوم حيثما كان

حركة دؤوبة ومتنوعة ما بين هجرة لإقامة الدين إلى دعوة وأمر بمعروف ونهى عن منكر إلى طلب للعلم وارتحال وبذل لأجل تحصيله ثم جهاد ونصرة ونفع للناس. مع كل ظرف وتحت أي ضغوط أو مؤثرات هناك حركة من نوع ما.

إنها رسالة واضحة مفادها أن هذا دين حركة وعمل وبذل ودأب؛ ليس دين تنطع أو راحة وكسل. في كل مقام وفي كل حال هناك نوع من الحركة المطلوبة؛ عند الاستضعاف هناك حركة وتكليف بالصدع: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14].

تأمل قيامهم وقولهم، ثم تأمل المفاصلة الواضحة في قولهم: {هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].

ثم تأتي الهجرة للنجاة بالدين بعد انقطاع السبل واستحالة الظهور: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} [الكهف:16].

وعند ظهور المعاصي والغفلات كانت هناك حركة دعوية حوارية ظهرت جلية في الحوار المستمر بين صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن وتكرار لفظ وهو يحاوره يبين تلك الحالة النابضة والسعي الحثيث للتغيير والنصح.

وعند وجود نوع من الاستقرار يسمح بالحركة في طلب العلم والاستزادة من المعرفة النافعة نجد موسى يجوب الفيافي والقفار معلنًا نيته وعزمه وإصراره على بلوغ غايته العلمية: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]. إن الإصرار بلغ به استعدادًا لأن يظل سائرًا لأحقاب طويلة وأعوام مديدة وأزمنة مديدة لا لشيء إلا ليتعلم ويعرف.

وحينما يدرك بغيته تجد التعليم العملي من خلال الحركة المستمرة أيضًا والتي تظهر في لفظ متكرر {فَانطَلَقَا} وإذا بالحركة التعليمية العملية تستمر من قرية لأخرى وعبر البحر والبر والمتعلم يتواضع ويتصبر.

وعند الرخاء والتمكين واكتمال الأسباب المادية والقوة السلطانية لن تجد في السورة الإخلاد إلى دعة القصور وسعة حدائقها الغناء ولذاتها ومتاعها. بل ستجد حاكمًا عادلًا وسلطانًا قويًّا متحركًا يجوب مشارق الأرض ومغاربها لينشر العدل في ربوع المعمورة وينصر المستضعفين ويكف أذى المفسدين والظالمين.

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ}، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} حركة عالمية كبرى لا تعرف حدودًا ولا تحصرها قوميات. فقط الحق والعدل واستعمال ما أوتي من أسباب لأجل ذلك. المهم أنه دائمًا كانت هناك حركة وبذل من نوع ما.

إنها صورة رائعة للمجتمع المسلم المطلوب؛ مجتمع متحرك عامل مهما تباينت الأحوال ومهما تغايرت الأوضاع والمؤثرات. يظل الأصل أن المؤمن متحرك إيجابي نافع حيثما حل وارتحل سواء كان في أقصى المشرق أو المغرب. المهم أن يتحرك لدين الله، وأن يتبع سببًا تمامًا كما فعل ذو القرنين، وكما فعل أشباه ذي القرنين في كل زمان.

 

أثناء رحلته الطويلة في أرجاء الأرض الشاسعة التي كان أحد أربعة ملوك ملكوا ما بين مشرقها ومغربها وجد ذو القرنين قومًا {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ۗ} [الكهف:86]. ويبدو أن الظلم كان قد تفشى بين هؤلاء القوم الذين سكنوا أقصى الغرب الذي استطاع ذو القرنين بلوغه، وقد خُير ذو القرنين في التعامل معهم: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]. هل كان التخيير من الله؟ هل كان بوحي فيترجح قول القائلين بنبوته وبورود الوحي عليه؟ أم كان عبر نبي آخر عايشه ذي القرنين؟ ربما كانت هذه أو تلك لكن ما يعنينا هنا في هذه التأملات إجابته! تلك الإجابة التي ترسخ لمبدأ عدل باهر على بساطته ووضوحه فلطالما افتقرت إليه البشرية: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87، 88]. هكذا كان رد ذي القرنين. ومن رده تُتبين تلك القاعدة القرآنية العظيمة ويظهر من خلالها المبدأ الثابت والأصل الراسخ: لا عقوبة إلا مقابل خطأ وبما يوازي الخطأ والمتسبب في الخطأ عليه أن يتحمل مسؤوليته ويسدد (فاتورته) بما يوازيه.

أن تُعرف أسباب المشكلة ومحل الخلل وموطن الخطأ وأن يتحمل المخطىء تلك المسؤولية المادية أو المعنوية عن الخطأ الذي قام به ويدفع من ظلم ثمن ظلمه. فقط من ظلم؛ هذا هو الأصل والقاعدة الشرعية الواضحة حتى على مستوى الأعراف البشرية الطبيعية -باستثناء الحقب الفاشية والأمم القائمة على التطهير العرقي والإبادة الطائفية- فإن ذلك المبدأ هو الأصل.

المنصفون كذي القرنين في كل زمان ومكان لا يجرمنهم شنئان ولا يستخفنهم بهتان ولا يعممون طغيان؛ بل يُفَصِّلون ويميزون ويفرقون بين الصالح والطالح وبين المحسن والمسىء ويرفعون دوما ذلك الشعار القرآني الجليل (ليسوا سواءً) ولو افترضنا جدلًا وقوع الخطأ من أي مخلوق غير معصوم فلتكن المحاسبة من نصيب مقترفه فقط عملا بتلك القاعدة القرآنية التي تكررت بنفس اللفظ خمس مرات في كتاب الله.

قاعدة: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؛ ذلكم المبدأ المنطقي البسيط الذي هو على الرغم من بساطته ووضوحه وبدهيته صار يغيب عن أذهان كثير من الناس اليوم فيعتمدون خطاب الجمع والتعميم ويختارون ثقافة السلة الواحدة التي هي ثقافة مريحة بلا شك لكنها راحة الاستسهال واطمئنان التنطع والكسل. فلماذا ينفق الظالم شيئًا من وقته وفكره في التفصيل والإنصاف بينما هو يستطيع أن يلقي الجميع في سلة واحدة و(يخلص)؟!

وإن ذكرته بأنه (لا تكسب كل نفس إلا عليها) وأن (كل نفس بما كسبت رهينة) وأن (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) و(إن أعظمَ الناسِ فريةً الشاعرُ يَهجو القبيلةَ بأسرِها) -تأمل: القبيلة بأسرها- إلى آخر تلك الأدلة القرآنية والنبوية الناصعة التي تبرق بنور الإنصاف والعدل؛ فإن تذكيرك لهذا الصنف بها سيصطدم للأسف بحواجز مصمتة وضعها على عينيه مروجو تلك الثقافة؛ ثقافة السلة الواحدة والتعميم المقيت ومبدأ السيئة تعم والعقوبة على المشاع. ولو أتعب أولئك المستسهلون عقولهم في تأمل مآل تلك الطريقة لحقروا أنفسهم ولربما لم يتمالكوا أنفسهم من الضحك على سطحية رؤيتهم وسماجة مبدأهم ثم لا يلبث ضحكهم إلا وينقلب إلى بكاء حين يكتشفون مدى الظلم والغبن الذي دفعهم إليه شنئان قوم.

 حين يتفكرون للحظات كيف يحاسب كل أسمر على خطيئة من يشاركه لونه وكيف يعاقب كل أشقر على جريمة ارتكبها شبيهه ولماذا يُلام سمين على كل ذنب اقترفه سمين مثله. مشهد هزلي هو لكنه للأسف يحدث يوميًا. مجرد أن تسمع أو تقرأ لإنسان يتكلم مهاجما مخالفه بصيغة الجمع قائلا: أنتم فعلتم وسويتم تعلم حينئذ أنك بصدد أحد أبناء تلك الثقافة؛ ثقافة التعميم المريح ومبدأ امتداد العقوبة وعمومها وشمولها. ذلك المبدأ الذي حذر منه يوسف عليه السلام بكل وضوح حين عرض عليه إخوته أن يأخذ أحدهم بدلًا من أخيهم فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ} [يوسف:79].

 فقط من وجد المتاع عنده؛ تماما كما قال وفعل ذو القرنين: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} فقط من ظلم.

وثمة قيمة راقية أخرى يعلمنا إياها الملك العادل والعبد الصالح ذو القرنين أثناء رحلته إلى أقصى الغرب: قول اليسر! {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} ليس فقط بالجزاء المادي يكافأ المرء. ل ابد من الكلمة الطيبة، ومن القول الحسن.

لقد بين ذو القرنين أنه سيجازي المؤمنين الصالحين أو أن ربهم سيجزيهم الجزاء الأوفى لكن الأمر لم يقتصر على الجزاء؛ إنه سيقول أيضًا، سيتكلم، سيثني ويشكر، ولا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ هكذا علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك أمر المتحابين في الله أن يفعلوا: "مر رجلٌ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعنده ناسٌ فقال: رجلٌ ممن عنده إني لَأُحِبُّ هذا للهِ. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «أَعْلمتَه؟» قال: لا، قال: «فقُمْ إليه فأَعْلِمْهُ» فقام إليه فأَعلَمَه فقال: أحبَّكَ الذي أحببْتني له. قال: ثم رجع إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأخبرَه بما قال، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «أنت مع من أحببتَ ولك ما احتسبتَ» (رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي وحسنه الألباني).

وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» (رواه أحمد و غيره) وفي رواية عن أبي ذر: «إذا أحبَّ أحدُكمْ صاحِبَه فلْيأْتِه في مَنزِلِه، فلْيُخبِرْه أنَّهُ يُحِبُّه للهِ».

 

تخيل: يأتيه في منزله لا لشيء إلا لأجل هذه الكلمة الطيبة (أحبك لله)! إنه قول اليسر والكلام بالتي هي أحسن الذي أوصانا به ربنا {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} بالبقرة:83]، {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]. مبدأ قرآني نبيل يفعِّله ذو القرنين بشكل واضح ومباشر فيا ليتنا نقتدي به، ونقول يسرًا.

وتستمر رحلة ذي القرنين الذي لم نعرف عنه من خلال القصة القرآنية أنه مكث بمكان واحد أخلد فيه إلى الراحة والدعة وتصل بنا رحلته الطويلة إلى مكان آخر عجيب يبدو أن له علاقة بمشرق الشمس قيل هو أقصى المشرق وقيل هو مكان يطول فيه النهار عن طبيعته المعتادة.

في هذا المكان وجد ذو القرنين قومًا ليس لهم ساتر من الشمس ولقد تحدث المفسرون طويلا حول طبيعة هؤلاء القوم فمنهم من قال أن أرضهم لم تكن تحمل بنيانا يقيهم حر الشمس وليس فيها جبل أو شجر يستظلون به فكانوا إذا طلعت الشمس تغوروا في المياه أو دخلوا في أسراب، فإذا غربت خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم.

{حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90]. ومن المفسرين من رأى أن هؤلاء القوم كانوا من القبائل البدائية التي لم تعرف التحضر وأنهم لم يكونوا يستترون ببناء ولا حتى بثياب تكسوهم والبعض ذكر أنهم من الزنج والبعض زاد بروايات بعضها لا يخلو من أساطير. خلاصة كلام المفسرين أنهم كانوا قومًا ذوي طبيعة خاصة ومختلفة وأن ذا القرنين بلغ أرضهم ضمن ما بلغ ملكه الشاسع.

الملفت في هذه المرحلة من رحلته ليس عجب المكان ولا طبيعة السكان. الملفت هو تلك الجملة التي تلت تلك المرحلة التي يخيم عليها بعض الغموض وشيء من روح الاستكشاف التي قد تكون من أسباب العلو لدى من يصل إليه: {كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91]. الكلام هنا من الملك الحق سبحانه وتعالى؛ من اللطيف الخبير عالم الغيب والشهادة الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

أحطنا بما لديه خبرا: اطلعنا على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء؛ مهما بلغوا من شأن، مهما اكتشفوا من أعاجيب، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، لم يخرجوا عن الإحاطة الربانية ولم يتفلتوا من المعية الإلهية والإدراك الكامل والمراقبة المحكمة.

هذا في شأن ذلك الملك الذي ملك ما بين المشرق والمغرب ضمن قلة فعلوا عبر العصور، فما بالك بمن هم أدنى وأضعف. فيا ليت كل من أوتي ملكًا وسلطانًا أو سببًا من أسباب القوة والتمكين يتأمل تلك الإشارة ويتدبر تلك الحقيقة لكان وفر على نفسه وعلى العباد كثيرًا من الغي والجبروت الزائف. فقط لو تذكر حقيقة الإحاطة: {كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}.

وفي خاتمة الرحلة ذات المسافات الشاسعة التي جاب فيها ذو القرنين الأرض من مشرقها إلى مغربها سيلتقي الآن بأناس يصعب التفاهم معهم؛  إنهم قوم لا يكادون يفقهون قولا.

البعض ذهب أن ذلك لعجمة في ألسنتهم ولغة غريبة غير متداولة كانوا يستعملونها في التفاهم والبعض الآخر ذهب إلى أن عدم فقههم بسبب علة في عقولهم إما لطبيعة فيهم أو لما أصابهم من أهوال على يد المفسدين في الأرض يأجوج ومأجوج. المهم هنا أن التواصل معهم كان صعبًا؛ لكنه فهمهم وأدرك شكواهم؛  لعله صبر عليهم ولعله استعان بلغة الإشارة كما قال بذلك بعض المفسرين.

المهم أنه صبر وتمهل وبذل ما في وسعه حتى فهم؛ فهم قوما لا يكادون يفقهون قولًا، ومن لا يفقه يصعب عليه جدا أن يفقه غيره ما يريد. لكنه نموذج آخر من نماذج عدل الحكام كما ينبغي أن يكون يضربه لنا ذو القرنين. ليس كما يتململ كثير من ذوي القوة والمنصب والسلطان من شكاوى الخلق ومطالب البسطاء أو يأنفون من التواصل مع المساكين والعامة ممن لا يجيدون أساليب النخب وطرق التواصل التي يحبها أهل الجاه والصولجان. لم يكن ذو القرنين يأبه بكل ذلك؛ هؤلاء قوم لهم مطلب وهذا وحده سبب كاف ليسمعهم، وليفهمهم. لكن لماذا ذو القرنين؟!

لماذا توجه له المظلومون طالبين النجدة والنصرة؟! لماذا كان بمجرد بلوغه منطقتهم بين الجبلين العظيمين ملجئًا لهم ومحلًا لشكواهم من إفساد من ظلموهم؟! {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف:94]. هل هي سيماه التي كانت على وجهه والتي يعرف بها الصالحون كما عُرف يوسف في السجن فقيل له: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]. أم هي سمعته في الذود عن المظلومين وأنباء عدله التي تناقلتها الألسنة؟! ربما هذا وربما ذاك لكن الخلاصة أنهم أحسنوا الظن وأجادوا الاختيار. ولقد كان عند حسن ظنهم؛ بل في الحقيقة كان أحسن كثيرًا من ظنهم. فبالمعايير المادية المعتادة فإن لا شيء بدون مقابل؛ لا أحد يفعل شيئًا عظيمًا أو يُسدي خدمة لأحد دون أن ينتظر منه أجرًا. هكذا يقيس الأمور كثير من الخلق بمنطق المصلحة المتبادلة والنفعية الصارمة التي لا هوادة فيها؛ شيء مقابل شيء وخدمة نظير أجر؛ هكذا فعل القوم مع ذي القرنين وكذلك كان ظنهم به: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94].

هل نجعل لك أجرًا عظيمًا ومالًا وفيرًا مقابل تلك المساعدة في إنقاذنا من المفسدين وعزلنا عنهم بسد منيع. كان ذلك عرضهم، وكانت تلك إجابته: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95].  إجابة مفاجئة لمن لم يدرك ذلك المعيار الآخر؛ معيار طلب رضا الله وابتغاء ما عنده. المعيار الذي به يقيس الصالحون الأشياء. ليس معنى ذلك أنهم يحرمون ما أحل لهم الله من اتخاذ الأجر مقابل العمل. لقد قبله موسى عليه السلام وهو من هو من الصلاح والتقوى، لكن إن كان الله قد كفاني وأغناني فلماذا المزيد؟!

لعل هذا ما فكر فيه ذو القرنين، ولعل مثله ما فكر فيه سليمان عليه السلام حين جاءته هديه أهل سبأ فقال بحزم: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، ومثله ما ورد في كلام كثير من الأنبياء عليهم السلام.

المال خصوصًا: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} [هود:29]، {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود:51]. هكذا أعلنوها مرارا ناصعة نقيًّة نافية لانتظار الأجر؛ أي أجر. فالقضية ليست عند الصالحين كمسألة حسابية لا بد فيها من طرفين مستويين وشيء لزوم الشيء. القضية لها مقاييس أخرى عندهم؛ مقاييس أخروية شعارهم فيها ولسان حالهم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. هكذا يفكرون، وكذلك يفعلون.

 

ثم يأتي أوان الإنجاز الأشهر والأعظم في حياة ذلك الملك العظيم ذي القرنين (السد). لقد صرح القوم بطلبهم وبينوا أن تلك هي الوسيلة الوحيدة لدفع شر أعدائهم وعرضوا المال والخراج على ذي القرنين ليبنيه لهم، ولقد رفض الأجر كما بينا واكتفى راضيًا بنعم الله عليه؛ لكنه مع ذلك لم يسارع للتنفيذ، رغم قدرته على ذلك وهو الذي أوتي من كل شيء سببًا. لقد قال لهم وهو المُمَكَّن القوى: فأعينونى!

 

{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95] أعينوني؟!! وهل يحتاج من أوتي من كل شيء سببًا لعون؟!

إنها قيمة أخرى يغرسها ذو القرنين. لقد أشركهم معه وغرس فيهم قيمة العمل والبذل. ثم هو لم يكتف بذلك، وما زال بهم حتي علمهم صناعة سبيكة الحديد والنحاس، وأطلعهم على سر بناء السد المتين، الذي يصمد ويقوي علي حجز قوم يأجوج ومأجوج.

يمكنك أن تقول إنه لم يعطهم سمكًا، ولكنه علمهم كيف يصطادونه بأنفسهم، وكذلك فعل يوسف عليه السلام حين أوَّل رؤيا الملك فلم يكتف بالتأويل الخبري بل نصحهم ودلهم على خطة محكمة لمواجهة المجاعة المقبلة بأنفسهم، وكذلك كل قائد متجرد؛ ليست قضيته أن يظل الأتباع عالقين به لا يتحركون إلا بأمره، ولا يرون في الكون غيره فلا يتمحورون إلا حوله ولا يدورون إلا في فلكه ولا يفعلون شيئا إلا التصفيق له والتهليل لعظمته والانبهار الدائم بذكائه وعبقريته. القائد الحقيقي لا يعنيه كل ذلك؛ إنما يعنيه أن تكون لديهم القدرة على العمل والحركة والتغيير والبناء به أو بدونه. فهو في حقيقة الأمر مجرد لبنة؛ لبنة في بناء كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وهو فى النهاية ميت وإنهم ميتون. هذا هو التوسط والقصد؛ لا بأس من وجود القادة والرموز، بل لا غنى عن وجودهم؛ لكن لا يصح أبدًا أن تتمحور الحياة فقط حولهم، وتختزل في أشخاصهم حتى يتحولوا في ميادين النفس إلى أوثان كبيرة، تنتهى إليها الأحداث، وتدور في فلكها الوقائع.

فليكن القادة، وليحترموا، و ليقدروا، ما داموا على الجادة؛ لكن الأهم أن تكون معهم، و إلى جوارهم، وبمحاذاتهم الأفكار، والرؤى، والمناهج، والمؤسسات، وليحاكم كل ذلك إلى موقعه من موافقة الحق أو مخالفته، وليرتبط الناس بالحق والعلم والعمل، وليس بالأشخاص.

 ثم بُني السد... وماذا بعد أن تم البناء واكتمل الإنجاز؟!

لم يقل ذو القرنين: هذه عبقرية مني! ولم يتحدث عن مدى قوته وتمكنه، ولم يدع أن هذا بفضل علمه بصناعة السبائك المعدنية والتقدم العلمي والمعرفي الذي بلغته حضارته، ولم يدندن حول شعارات الإنجازات الوطنية العظيمة أو يدغدغ مشاعر التشنج القومي التي يهواها البعض في مثل تلك المواقف فيصمون الآذان بالأغاني والأشعار وهتافات الثناء على السواعد الفتية والمجهودات العلية لمن قاموا ببناء السد المهيب، لم يفعل شيئًا من ذلك.

جملة واحدة اكتفى بها في قمة تمكينه وفي خضم إنجازه الهائل ببناء السد الشاهق: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} من الله؛ محض فضله وبركته وتيسيره ورحمته، وهو على قوته وصلابته ليس بخالد ولا منيع أمام إرادة الله وقضائه {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98].




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق