علاقة الاستمساك بالقرآن بالسعادة:
تأمل هذه الآية وهذا الحديث لترى بعينَي رأسك وتسمع بخالص أذنك وتوقن بقلبك كيف أن القرآن يحقق السعادة ويجلب السكون والطمأنينة والحياة الطيبة.
أما الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه من الآيتين:123-124].
قال ابن عباس: "فضمن الله لمن اتبع القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة".
أما الحديث فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ما أصابَ عبدًا همٌّ ولا حزَنٌ، فقالَ: اللَّهمَّ إنِّي عبدُكَ، وابنُ عبدِكَ، وابنُ أمتِكَ، ناصِيتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكمُكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُكَ، أسألُكَ بِكُلِّ اسمٍ هوَ لَكَ، سمَّيتَ بهِ نفسَكَ، أو أنزلتَهُ في كتابِكَ، أو علَّمتَهُ أحدًا مِن خلقِكَ، أوِ استأثَرتَ بهِ في عِلمِ الغَيبِ عندَكَ، أن تَجعلَ القرآنَ ربيعَ قَلبي، ونورَ صَدري، وجلاءَ حُزْني، وذَهابَ هَمِّي، إلَّا أذهبَ اللَّهُ همَّهُ وحزنَهُ، وأبدلَهُ مَكانَهُ فرجًا» (ذكره الألباني في صحيح الكلم الطيب والصحيحة وغيرهما).
قال ابن القيم: في تعليقه على هذا الحديث: "ولما كان الهم والحزن والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى ألا تعود وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاد أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك" (الفوائد).
فكلما ازداد اقتراب المرء من القرآن ازداد شعوره بالأمان والسكينة.
قال عبد الله بن مسعود: "إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فمن دخل فيه فهو آمن".
الدلائل على أن القرآن يحقق السعادة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة من الآيتين:15-16].
فنور القرآن يخترق الظلمات فيبددها.. لكن انتبه: في البداية سيجد نور القرآن صعوبة في الدخول إلى القلب بسبب حجب الظلمات التي تراكمت عليه من آثار المعاصي والغفلات... ولكن أبشر: هذه الحجب لا تستطيع أن تقاوم طويلًا إذا داوم العبد على التلاوة والتدبر.
وكلما دخل النور إلى جزء من أجزاء القلب انطرد منه الهوى وعادت إليه الحياة مرة أخرى إلى أن يأتي الوقت الذي يعود فيه القلب إلى كامل صحته.
وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].
قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الزخرف:10] فيه شرفكم ومجدكم وعزكم وسعادتكم..
وقال عليه الصلاة والسلام: وهو يخطب في مرجعه من حجة الوداع: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ» (رواه مسلم [2408]، وغيره).
وعن عقبه بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ونحن في الصفة فقال: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ! قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ. وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» (رواه مسلم [803]، وأبو داود [1456]، كوماوين: مكتنزين لحمًا. بطحان، العقيق واديان على مقربة من المدينة].
وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ لِلهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ»، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ» (رواه ابن ماجه [215]، وصححه الألباني].
فهنيئًا لمن استمسك بالقرآن فكان من أهل الله!! فأي سعادة تفوق هذه السعادة؟
وقال عليه الصلاة والسلام: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (رواه مسلم [2699]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَن سرَّهُ أن يُحبَّ اللَّهَ ورسولَه فليقرَأْ في المصحَفِ» (رواه أبو نعيم وانظر الصحيحة).
وقال عليه الصلاة والسلام: «يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً» (رواه الترمذي [2915]، وغيره وانظر صحيح الترغيب والترهيب).
ويتعدى هذا الفضل العظيم والخير العميم والسعادة العارمة إلى الوالدين: قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُورٍ، ضَوْءُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيُكْسَى وَالِدَيْهِ حُلَّتَانِ لَا تُقَوَّمُ بِهِمَا الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَا كُسِينَا هَذَ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ» (رواه الحاكم [2095]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
أما يستحقان الوالدان أن تُسعدهما في الآخرة كما أسعداك وربياك في الدنيا وهذا من حقوقهما...
قال خباب رضي الله عنه: "تقّرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء أحبّ إليه من كلامه".
وقال عبد الله بن مسعود: "من أحب القرآن فقد أحب الله فإنما القرآن كلام الله".
وقال عثمان بن عفان: "لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا".
وسُئِل سفيان الثوري: عن الرجل يغزو أحب إليك أو يقرأ القرآن؟ فقال: "يقرأ القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (صحيح البخاري [5027])".
ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رضي الله عنه في المسجد وبين يديه المصحف فقال له الشافعي: "شغلكم الفقه عن القرآن، إني لأصلى العتمة وأضع المصحف بين يدىّ فما أطبقه حتى الصبح".
وقال بعض السلف لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا قال: "واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن! فبم يترنم! فبم يتنعم! فبم يناجى ربه؟!".
واجبنا نحو القرآن:
1- المحافظة على تلاوته وترتيله:
فهي التجارة التي لا تبور كما قال العزيز الغفور: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر:29].
فينبغي على المسلم ألا يمر عليه شهر على الأقل إلا وقد قرأ القرآن كله.. كم يستغرق الجزء منك؟ نصف ساعة أو يزيد قليلًا.
هل تستكثر على ربك الذي خلقك فسواك فعدلك وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة.. فصحتك وعافيتك منه.. ومالك وعقارك منه.. أهلك وولدك منه.. عقلك وذكاؤك منه.. جاهك وصولجانك منه.. أما نور عينيك فهذا شيء آخر ولا أظنك تبخل به على ربك الذي وهبك كل هذه النعم.
عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ» (رواه ابن حبان في صحيحه [361]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» (رواه مسلم [804]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» (رواه الترمذي [2910]، وصححه الألباني).
2- محاولة حفظه كله أو بعضه وتعاهده:
فهذه غنيمة أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة لهم من الله البشارة بالسلامة من النار.
قال عليه الصلاة والسلام: «لو جُمِعَ القرآنُ في إِهابٍ ، ما أحرقه اللهُ بالنَّارِ» (صحيح الجامع [5266]).
3- وهو أعظم الحقوق - تدبره وفهم معانيه:
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
وهذا موضوع كبير نتطرق إليه على حدة أو في بابه إن شاء الله.
4- العمل به والتخلق بأخلاقه:
وهذا هو أساس الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة وهذا هو المقصود من قراءته وحفظه وتدبره.
قال تعالى: {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
وقال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة من الآية:187].
وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ... تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» (صحيح مسلم [805]).
5- تعليمه للغير:
قال عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (صحيح البخاري [5027]).
النصيحة:
• استمسك بكتاب ربك تسعد.
• اجعل لنفسك وردًا قرآنيًا يوميًا، واجعله كضرورياتك.