تحملت المرأة المسلمة أعباء هذه الدعوة منذ فجر الإسلام، وضربت أروع الأمثلة في الصبر والتفاني والثبات. "وإن أول قلب خفق بالإسلام وتألق بنوره قلب امرأة وقد هيء لها من جلال الحكمة وبعد الرأي وزكاء الحسب ما عز على الأكثرين من الرجال.
لقد تأثرت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بهذا الدين تأثراً نفذ إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فكان مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النُّوَب واشتداد الخطوب" [1].
فقال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضلها وسابقتها: «آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد، وحرمتموه مني» [2].
ثم تحملت المرأة العذاب في سبيل دينها، متحدية سطوة قريش وجبروت طغيانها آنذاك. كانت سمية بنت خبَّاط أم عمار بن ياسر، سابعة سبعة في الإسلام، وكان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة خرجوا بها وبابنها وزوجها إلى الصحراء وأهالوا عليها الرمال المتقدة وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وتوفيت سمية تحت التعذيب رضي الله عنها.
وعن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية بنت خبَّاط، والدة عمار بن ياسر، كانت عجوزاً كبيرة ضعيفة، ولما قتل أبو جهل يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: «قتل الله قاتل أمك» [3].
لقد هانت النفس والمال والولد عند الرعيل الأول من الرجال والنساء في سبيل عقيدتهم ودينهم وحب الله ورسوله.
"عن ابن اسحق عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقت أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فلما نُعوا لها قالت: "ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" قالوا: "خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين".
قالت: "أرونيه حتى أنظر إليه".
قال: فأشير لها حتى إذا رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل" [4].
وخلال الهجرة ساهمت المرأة في التخذيل عن رسول الله وصاحبه وتحملت الأرزاء والمشاق في سبيل دينها. فكانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوائل من هاجر إلى الحبشة، وكان معها جملة من نساء المؤمنين [5].
وكانت أم سلمة رضي الله عنها، قد منعها قومها بنو المغيرة من الهجرة مع زوجها، ثم جذبوا ابنها سلمة منها حتى خلعوا يده، ففرقوا بينها وبين زوجها. تقول رضي الله عنها: "كنت أخرج كل غداة، وأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سبعاً". حتى مر بها رجل من بني عمها فرقّ لها. وقال لبني المغيرة: "ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها، وبين ابنها"، فقالوا: "إلحقي بزوجك إن شئت"، وردوا عليها ابنها ثم لحقت بزوجها، رضي الله عنهما [6].
ويستمر شأن الجاهلية هذه حتى أيامنا هذه، فيشرد المؤمنون في أصقاع الأرض، ويمنع ذووهم من النساء والأطفال من تأشيرات الخروج للحاق بهم، وتبقى سلعة الله غالية، تستحق التضحيات الجسام.
وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ذات مواقف عظيمة خلال الهجرة، تمثل لباقة الداعية وحصافتها وثباتها.
قال ابن اسحق: حدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين؟ قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي [7].
وعندما احتمل أبو بكر ماله كله، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم خلال هجرته، سكّنتْ أسماء جدها أبا قحافة بأن وضعت حجارة في كوة البيت الذي كان يضع أبو بكر ماله فيها، وغطتها بثوب ووضعت يد أبي حقافة على ما ظنه مالاً..
تقول: ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك [8] ولم تكتف المرأة المسلمة بذلك، بل ساهمت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قدر طاقتها.
"دخل قريب لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، فوجدت من ريح شراب. فقالت: لئن لم تخرج إلى المسلمين فيجلدوك؛ لا تدخل علي أبداً" [9].
وها هي أُم سليم تدفع ولدها ليكون جندياً يخدم صاحب الدعوة.
عن أنس قال: "أتت بي أم سليم (والدته) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أزّرتني بنصف خمارها، وردَّتني ببعضه فقالت: "يا رسول الله! هذا أُنيًس ابني أتيك به يخدمك فادع الله له".
فقال: «اللهم أكثر ماله وولده» فو الله إن مالي كثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادّون على نحو من مئة اليوم" [10].
وعندما خطب أبو طلحة أم سُليم (قبل أن يسلم) قالت: "يا أبا طلحة! ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبتُ من الأرض" قال: "بلى".
قلت: "أفلا تستحي؟ تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقاً غيره".
قال: "حتى أنظر في أمري".
فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقالت: يا أنس زوج أبا طلحة.
فزوجها فكان صداقها الإسلام [11].
فأين من ذلك فتيات اليوم؟ ممن يتغالى أهلهن بالمهور، وقد يكون الخاطب ذا دين وخلق، ولكن لا يستطيع دفع الأموال الطائلة، وكذلك الفتيات يتباهين بكثرة ما يدفع إليهن من مهر وذهب ومجوهرات، أو يبقين عوانس مدى حياتهن وما أكثر هذه الظاهرة في عصرنا الحاضر.
------------------------------------------
[1] عودة الحجاب: محمد اسماعيل المقدم 2/263.
[2] قال محقق سير أعلام النبلاء: إسناده حسن انظر السير 2/112.
[3] الإصابة: 4/327.
[4] البداية والنهاية: 4/47، وحياة الصحابة: 2/333 (وجلل: تريد صغيرة، قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير).
[5] الإصابة: 4/297، وسيرة ابن هشام: 1/322.
[6] الإصابة: 4/439.
[7] السيرة النبوية لابن هشام: 1/487.
[8] انظر سيرة ابن هشام: 1/488.
[9] أخرجه بن سعد: 8/129، وسنده حسن (أعلام النبلاء 2/244).
[10] أخرجه مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة:(انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/398).
[11] الإصابة لابن حجر: 2/442.