إن القلم هو منارة الأمم، وسلاحها الحاد، وصِمَام أمانها وسلامها، وعنوان وحدتها، ولمكانته العظيمة أقسم الله به فقال تعالى: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [القلم: 1، 2]، تشريفًا لحامله، وإلزامًا بحفظ أمانته، وتكليفًا بالصدق في تبليغ رسالته، والاضطلاع بدعوة الإسلام الشريفة، والنهوض بواجب الاستخلاف، تحقيقًا لسلطان الحق والعدل، وتمكينًا لشريعة الله في الأرض.
1. الأقلام..روح الصدق والأمانة:
إن أقلام الأمجاد هي روح الصدق والإخلاص، ولها رسالة نبيلة وقيمة وفضيلة، تخلد تاريخًا عتيدًا منقوشًا على جبين الحياة بما تحمله من معانٍ حِسان وألفاظ عِذاب، وأسلوبٍ لا لبس فيه يشرق على سطور الذاكرة ولا يغيب..
ولا تكون الأقلام صانعةً للأمجاد إلا إذا أخلصت في أداء الحق والواجب المنوط بها، ولا يتحقق الإخلاص إلا إذا تحرَّى الكاتب الصدق في كتاباته، والأمانة في نشر أفكاره على أساس واضح المعالم، وقواعد بينة الآثار والرواسم، وبذل أقصى جهده في أداء واجب التكليف التزامًا بأمانة الكلمة التي أخذها على عاتقه، وحملها على طاعة خالقه، مصداقًا لقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
ولا يتحقق الإخلاص إلا إذا تحرَّى الكاتب النزاهة في تبليغ أفكاره العظيمة، وآرائه السديدة، ووجَّهها لخدمة الغايات النبيلة، والارتقاء بالعقل والفكر والحس والوجدان، وجد واجتهد في إثارة الدعوة المستنيرة، جهادًا في سبيل إثبات الحق في موطنه، وإقرارًا لسلطته وتنفيذ خطته، ودفع الباطل بالدليل القاطع، وقوة المنطق، ونفوذ الحجة، واعتبار البيئات والنظريات، ورد الشبهات والمغالطات طاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذعانًا لقول الحق سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
ولا تكون الأقلام صانعة للأمجاد إلا إذا جاهدت في الله حق الجهاد؛ اقتداءً بمنحى النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتبليغ، وحِفظ الأمانة العظمى.
2. الأقلام..قناديل نورانية:
إن أقلام الأمجاد هي قناديل نورانية، تنشر السلام والعدل والإصلاح، وتصُون العِرْض والشرف، والفضيلة والكرامة، وتسمو بالقيم والأخلاق، وتشيع العلوم والمعارف، وتملأ القلوب والعقول بمشارق الأنوار الساطعة، وتلبس النفوس حللًا قشيبة من الحُسن والنضرة والجمال.
ولو تدبَّر الكاتب معاني ومقاصد وجوده في هذه الحياة، لأدرك بفهمه العميق معنى الالتزام بمسؤولية رعاية القلم، وأن هذا الالتزام ليس قيدًا لحريته في التعبير، بل هو تنظيم لمنهج الكتابة الناجحة وفق الحدود التي تضمن له شروط السلامة والصيانة، وسلوك الطريق الوارية، آخذًا بمنهج الاتباع والاقتداء في تبليغ الحق وتبيينه والعمل به، مؤمنًا بدعوته بكل تجرد ونزاهة وفهم لحقيقتها ومتطلباتها ومقاصدها، وجلالة قدرها وعِظَم مكانتها وضخامة مسؤوليتها، فيتزود لها بطاقة تحث قلمه على المضيِّ في طريق الإصلاح والتغيير، وامتلاك زمام أمره، والانتصار به على هواه وغَيِّه، وتخليد كلمة طيبة وعلم نافع وأثر بالغ يذكر به في عليين وبين الخلائق..
وهذا الشعور بالطاقة المحركة للدعوة والالتزام بالمسؤولية هو سر نجاح الدعوة المحمدية في مدة قليلة.."ذلك أن قلةً من المشركين أدركت ما كانت تحمله هذه الدعوة في أحشائها من الطاقة الهائلة، ولم يفطن إليها إلا الذين كانوا على رصيد كبير من الذكاء والفطنة واللباقة، وكانوا من أصحاب الذهن الوقاد والبصيرة النافذة، وكانوا يتمتعون بالقابلية التي استطاعوا معها أن يسمُوا بأنفسهم عن حمأة العصبيات الجاهلية ليعرفوا الحق فيؤمنوا به لكونه حقًّا وصدقًا ويتبعوه في حياتهم الواقعية، ويقوموا برفع لوائه ونشره في العالم مهما غلا الثمن وعظمت التضحية، ولما برزت إلى حيز الوجود جماعة هذه سماتها وتلك عزائمها، شرع النبي صلى الله عليه وسلم على سواعدها ببناء مجتمع إسلامي منشود، وبعد أن تولى زمام دولته الإسلامية المستقلة أخذ يطبق على هذا المجتمع ما أوحاه الله إليه من خطة إصلاحية للحياة الإنسانية، وما كان للأوضاع القائمة والظروف السائدة آنذاك إزاء هذه الخطة إلا أن تتبدد بين عشية وضحاها"[1].
وهذا هو السبب الحقيقي لحدوث تلك الثورة الكبرى التي ملأت الدنيا ضياء وسعادة؛ "فشاهدت الدنيا بأم أعينها نتائج هذه الجهود وصاحت قائلة: ما أتم السلام في هذا المجتمع! وما أرسخ قواعد الصلاح وخشية الله في قلوب أهله! وما أعم ظواهر الصدق والإيمان فيه! وما أطهر الحياة الاقتصادية فيه من المعضلات والتعقيدات والنقائص! وما أجمل الحياة الاجتماعية فيه، وأطهرها من الأوساخ الخلقية! وما استطاع إزاء ذلك من وهبهم عيونًا مبصرة أن ينكروا ذلك النور الساطع الذي كانوا يرونه يملأ الدنيا ضياء وسعادة، ولا سيما أنهم كانوا قد خبروا عصر الجاهلية، وجنَوْا ثمارها المُرة.."[2].
واليوم نحن في حاجة ماسة وضرورةٍ ملحة إلى بعث تلك الأقلام النورانية التي تجدد المياه الراكدة في العروق الضيقة، وبعث تلك الثورة على جاهلية الأقلام، وإلجام من يحملها بلجام الحق والإنصاف، بعد ذاك التغيير الذي أسقط نخبة من الكتاب في مراتع الانحراف والفساد الأخلاقي، فسلكوا الدروب الضيقة، والانعطافات المهلكة دون احترام لعلامات التحذير الحمراء، ولا إشارات الانتباه والأخطار، وتبدَّلَتْ أخلاقهم وخصالهم في الظاهر والباطن، وانحرفوا عن عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، وخالطت أفكارهم ومعتقداتهم الشوائب والأوهام، وتعكر صفو أقلامهم بالأخلاط المردية، وتغيرت مقاييسهم للقيم رأسًا على عقب، وسرقت منهم هوية الانتساب، فغالَوْا في التعصب والخلاف، وانتهجوا نمطًا جديدًا في السلوك والاتباع، وأخذوا بأساليب جديدة في التفكير والتحليل والاستنتاج، وفي النقد والتقويم والإصلاح الذي يخدم دعوةً جوفاء، وغاياتٍ منحطة، وأهدافًا ساقطة لا تؤتي ثمارها الحلوة في الواقع الملموس المعيش..
ولن يتحقق التغيير والإصلاح المنشود إلا بصحوة الأقلام النورانية، التي تدعو إلى مذهب الحق وتجهر به، وهذا يتأتى لمن كان من الكتَّاب يمتلك الذهن الوقاد، والبصيرة النافذة، والتقدم الجريء، والقابلية لتحقيق التغيير والإصلاح، ويتمسك بالسبب الأقوى، ويأخذ بالعروة الوثقى، ويرتقي بتلك الطاقة الهائلة التي لا تعرف الوقوف ولا التخلف، ولا الرجوع القهقرى، بل هو المرتقى الذي يحرك السواعد والهمم العالية، وينهض بالقوى المنكسرة، فتنشط وتعمل، وتبني وتؤسس عقائدها ومناهجها ومذاهبها على اليقين والإيمان الصحيح، والاهتداء بالكتاب الناطق بالحق والسنة المبينة له؛ لأنهما معتمد الدعوة ومستندها الصحيح، وهما قِوام الدنيا والدِّين، وباعتمادهما تطيب الحياة، وتسعد المجتمعات، وترقى وتسير إلى الذروة والسنام..
3. الأقلام..تحاكي العقل والوجدان:
إن القلم الصادق..كالبلبل الشادي يغرد في كل الفصول، ولا تحاصره جغرافية المكان ولا حدود الزمان، فيحط تارةً على الغصن الرطيب، وتارةً يحط على الغصن الجاف، ويهزه التغريد فرحًا وانتشاءً، فتطرب لسماعه الأرواح، ويستبد به الأسى فيخرس صوته الشادي، ويتحول تغريده إلى تمتماتٍ تشتكي وتنوح كأنها في مأتم أو حداد..
فالقلم الصادق..ليس تمثالًا صخريًّا ثابتًا في مكانه على صورة واحدة لا شيء فيه يتغير، بل هو نسيج الحياة الإنسانية بكل ألوانها المختلفة ومشاعرها المتقلبة، وقصصها وحكاياتها باللونين الأبيض والأسود، وألوان الطبيعة الجميلة والكئيبة، وهو نسيج كلمات منقوشة على بساط الذاكرة تضم فصولًا تنمو كسنابل الزرع، وتقتات منها الأفكار شوارد الخواطر، وتبعث في الوجود همس الحقيقة الخاملة..
والقلم الصادق..يحاكي إشراق العقل، ودفق الشعور واندفاعه، سابحًا في الآفاق كما تسبح الطيور وتصفق، لا يَثْنِيه عن بلوغ غاياته الصدود ولا الخمول ولا الكسل، بل يهبُّ نشطًا ليصل الأرواح على امتداد الزمان وتنوع الفصول واختلاف الأمكنة، تواقًا إلى حياة طيبة كريمة مليئة بالآثار الفكرية اليانعة، والأدب المهذب الأصيل الموجه لتنوير الأذهان، وتهذيب النفس وتطهيرها من الدنايا والخطايا، والصعود بها إلى أوج الارتقاء في أجلى مظاهره الإنسانية..
والقلم الصادق..يلامس الشعور، ويحرك خفقان النبض، ويطرق الصدر، ويضمها عقد الكتابة مرصعًا بالمعاني الساطعة، ولا شيء يدانيها حين تمطر القلوب أفراحًا، وتوقد في شرايينها قناديل النور، فتلتذ بدفئها، وتسكن منعمةً برشف الشهد من عناقيد الكلمات والحروف، وتغمرها نشوة تداعب رفيف الخواطر والأفكار المزهرة، وتكتحل عينها زخرفة الخط ورسمه البديع وطراز الحبر على الورق الشفيف، فترحل خارج حصار السطور، وتخلع عنها القيود، وتنتقل من عالم الضيق إلى عالم السعة والانعتاق..
وحين يحاكي القلم هذه المعاني المرتبطة بالمشاعر والأفكار التي تظهر بعد مخاضٍ عسير، ويستعمل تلك المحاكاة في نشر الخير والنفع والإرشاد والهداية، وفق نواميس الطبيعة البشرية التي تنسجم مع الواقع الإنساني ومقاصد الشريعة ومصالح العباد، يكون لظهوره قوةٌ وانتشارٌ وامتدادٌ ينفُذُ إلى حد الجذر الغائر في النفس، ويكون لبزوغه إشعاعٌ لا ينطفئ، وخلودٌ في الذاكرة وسجلِّ التاريخ..
ولهذا حين سأل رجل المهلب بن أبي صفرة: (كيف نجحت وبلغت ما بلغت من مركز رفيع؟ رد عليه بهذا الجواب البليغ الحكيم: إنما أدركت ذلك بالعلم وحده، فقال الرجل: ولكن غيرك لم يصل إلى ما وصلت إليه وقد تعلم أكثر مما تعلمت؟ فقال المهلب: ذلك لأنني استعملت علمي ولم أحمله، بينما حمله غيري ولم يستعمله).
وقال محمد بن كناسة: