يسارع أناس فور تألقهم والتماع ذكرهم إلى الشروع في رحلة انفصال عن ماضيهم بتغيير الملامح والأسماء؛ والتنكر للأمهات والآباء؛ وصولا إلى استبدال الوطن ذاته بجنسية أخرى ينكشف أمرها في الأزمات!
إن وضعية (النجوم) في وطننا العربي اليوم مثيرة للشفقة؛ خصوصا بعد أن أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مؤثرة بشكل كبير في تحديد شعبية هذا النجم أو ذاك؛ وقياس حجم تألقه والمسافة التي تفصله عن منافسه. ومن طريف ما تفتقت عنه قريحة أحدهم في هذا الباب دفع مبلغ مالي كبير لإضافة آلاف المعجبين الوهميين إلى صفحته على الفيسبوك!
كيف يمكن للشهرة والنجومية أن تسلب المرء ذاته وتحضه على قطع الشرايين التي تغذي وجوده بأسباب البقاء؟ وهل بلغت المؤسسة الإعلامية ورديفتها الإعلانية هذا الحد المفجع من التلاعب بالعقول وطرح عالم (الأستوديو) بديلا لنبض الحياة اليومية في الأزقة والحارات؟
ولماذا يحرص بعض هؤلاء النجوم على الانخراط في مسعى خطير لتجريد الأمة من قيمها الأصيلة واستبدالها بأخرى شوهاء تمعن في تفتيت الهوية؛ وفصل حاضر المسلم المعاصر عن ماضيه وثوابته؟
شكلت أحداث ما سمي بالربيع العربي مناسبة لرصد حجم الإفلاس الذي بلغته النجومية الزائفة في سماء الفن وملاعب الرياضة ودوائر السياسة. وتوالت التصريحات والمواقف المعلنة التي تحيل على استعداد مؤسف للقطع مع كل القيم وتجليات النبل الإنساني إن أسفر عن الولاء لها تراجع في الحظوة لدى القائمين على وسائط الإعلام والاتصال. وفي المقابل تابعنا؛ ضمن حالات خاصة؛ كيف تعرض بعض النجوم لقصف إعلامي خطير إثر انحيازهم لقضية إنسانية أو موقف أخلاقي.
وبالنظر إلى حجم التأثير الهائل الذي تمارسه وسائل الاتصال الحديثة على الجيل الناشئ؛ فإننا بحاجة اليوم إلى رصد الآثار الجانبية للنجومية كصناعة إعلامية مؤثرة على البناء القيمي للمجتمع.
لا شك أن التحول الجذري الذي طرأ على الإعلام؛ سواء من حيث هيكله أومضامينه؛ قد أسهم في فصل النجومية عن إطارها القيمي؛ خاصة بعد أن تنبهت مراكز الهيمنة المالية والاقتصادية إلى دور الإعلام المحوري في إعادة تشكيل الأذواق والتصورات والمواقف على نحو يخدم مراميها وأغراضها.
فلم تعد النجومية والشهرة وثيقة الصلة بالتميز والتفرد والجهد الاستثنائي المبذول في حقل معرفي أو فني؛ بقدر ما أصبحت نتاج آلة دعائية ضخمة تصنع من أي فرد مغمور نجما ساطعا خلال فترة وجيزة؛ وعبر تقنيات وأساليب محكمة تجعل من الوجه والجسد إنجازا في حد ذاته لا يضاهيه أي إنجاز آخر!
إنها نجومية لا تنطوي على أي بعد قيمي أو دلالة ثقافية بقدر ما تحيل على نزعة تجارية وتسليع كامل للذات الإنسانية. أما تداعياتها الأخلاقية فهي اليوم مثار شكوى و تذمر حتى في المجتمعات التي يُفترض تحررها النسبي من منظومة القيم.
يقول الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل في معرض تحليله لظاهرة نجومية العارضات "ويبقى – شئنا أم أبينا – أن تلك العارضات النجمات هن مثل يحتذى لشرائح لا يستهان بها من الفتيات؛ ليس فقط في العالم الغربي ولكن على نطاق كوكبي؛ فإذا كان نجوم الفكر والعلم يحترمون ويقدرون لإنجازاتهم الفكرية؛ ونجوم الرياضة يملكون من المواهب ما يستحق التقدير في نظر جماهير المعجبين؛ فإن العارضات يجري الهيام بهن فقط لصورهن؛ فليس هناك لمحة أخلاقية أو فعل طيب أو موهبة خاصة يمثلنها.
وهذه هي الخطورة على الفتيات؛ فمحاولة التمثل بهاتيك العارضات فقط قد يتمخض عنها عواقب نفسية وجسدية سلبية " (1).
ويبلغ ضرر النجومية أشده في ظل سطوة غير مسبوقة لوسائل الإعلام؛ وعجز منظومتنا التربوية عن تحقيق المعادلة الحضارية ممثلة في استيعاب المتغيرات التي يشهدها المجتمع الإنساني المعاصر دون تعريض القيم الدينية والخلقية والضوابط الاجتماعية للاهتزاز.
وما نعاينه داخل أسرنا وخلف أسوار مدارسنا يحيل؛ مع كامل الأسف؛ على وضع تربوي مقلق تخطى فيه النجوم حدود الفرجة كي يلبوا حاجة الصغار إلى قدوة تُحتذى ونموذج يُحاكى!
أما التصور الإسلامي للشهرة والنجومية فيقوم على تهذيب الميل إلى التفرد والتميز حتى لا يقع المسلم في جملة من المحاذير التي قد تعصف بكيانه وتحبط عمله؛ كالعجب والرياء والغرور والتماس الجاه عند الناس. ومعلوم أن الطريق إلى الشهرة حتى وإن تحققت فيه النية الصادقة والوسائل المشروعة؛ يظل محفوفا بآفات ومطبات تنحرف بالقصد النبيل عن مساره لتبرز آثار التطلع للمال والجاه والسلطة. لذا لم يُخف السلف الصالح كراهيته للشهرة والنجومية؛ وحرصه على أن يستن بالهدي النبوي في تربية النفس ومجاهدتها.
روى ابن ماجة في سننه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكلمه فأرعد؛ فقال: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَلَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» (صححه الألباني في الصحيحة وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
هذا الموقف النبوي يلخص كل قول في النجومية يستشرف ما وراء متاع زائل؛ فالنبي الكريم الذي حظي بالاصطفاء وشرف الرسالة يأبى هنا أن ينفصل عن واقعه الاجتماعي؛ أو يمنح التميز والتفرد دواعي الاستعلاء وانسلاخ الذات عن ماضيها وبيئتها؛ إذ يجدر بالمسلم الذي استوعب حقيقة الوجود الإنساني أن يتطلع لآفاق أرحب تتحقق فيها معاني العبودية والمبادرة إلى الخيرات. وتأمل كيف أنه صلى الله عليه وسلم أحال هذا الأعرابي على ثلاث حقائق في بضع كلمات يطمئن بها فؤاده وتهدأ نفسه من أثر المهابة: حقيقة أنه ابن امرأة وفي ذلك تأكيد لبشريته؛ وحقيقة أنه من قريش؛ وفي ذلك تأكيد لنسبه وانتمائه القبلي مما يزيد من طمأنينة الرجل؛ ثم حقيقة أنها امرأة كانت تأكل القديد؛ وفي ذلك إحالة على المستوى الاجتماعي الذي تتقاسمه غالبية العرب آنذاك!
التقط الصحابة رضوان الله عليهم من هذا الموقف وغيره من التوجيهات النبوية إشارات دالة تستحث النفس لطلب النعيم المقيم لا المجد الزائل؛ فكان لهم موقف حاسم من الشهرة والنجومية وما يترتب عنهما من محاذير؛ فنجد ابن مسعود رضي الله عنه ينهى الناس عن السير خلفه كأنه في موكب قائلا: ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
ويصعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: أيها الناس؛ لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب فأظل اليوم وأي يوم! ويعاتبه عبد الرحمن بن عوف لأنه قصر بنفسه فيرد قائلا: ويحك يا ابن عوف إني خلوت فحدثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك؛ فأحببت أن أعرفها نفسها! و يكتب إلى سعد بن أبي وقاص محذرا من الشهرة الزائفة: "وإياك أن تكون ممن يتابع السبل المعوجة طلبا لشهرة الندامة والحسرة؛ فتبيع دينك بدنيا غيرك ويغرك بالله الغرور؛ وتكون قد أخذتها من حرام ووضعتها في حرام؛ وتمتلئ نفسك بعد ذلك غرورا وكبرا ورياء وعجبا".
و ينشأ جيل ينشر الدعوة في الآفاق وتتوالى على يديه الفتوحات؛ وتأتيه الدنيا صاغرة فلا تغره المكاسب والشهرة وذيوع الصيت؛ بل يجتهد في اقتفاء خطى نبي يلهم الإنسانية كلها سبيل العظمة والنجومية الحقة؛ ويسمو بالتواضع وخفض الجناح إلى أعلى مراتب السؤدد والمجد.
إننا نعايش يوميا تجليات نجومية "وقحة" لا تخفي تحاملها على قيم المجتمع وهويته؛ وتبدي استعدادا غير مسبوق لتوظيف النجاح الجماهيري في التأليب والتحريض وتغذية أسباب الفرقة والخصام. وما لم تتضافر الجهود للحد من تأثيرات الإعلام الجديد؛ عبر استعادة مبادئ الهدي الإسلامي في هذا الصدد؛ فإن صيانة الهوية والقيم والثوابت سيصبح رهانا عسير المنال!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- د.محمود حسام الدين إسماعيل : الصورة والجسد, دراسات نقدية في الإعلام المعاصر.مركز دراسات الوحدة العربية.بيروت 2008 .ص 186