معظم البشر يأخذون بالأسباب لإتمام أعمالهم؛ ولكن القليل منهم هم الذين يتوكَّلون على الله في ذلك، فالتوكُّل على الله ليس شرطًا لإتمام العمل؛ إنما هو شرط لقبول الله له، والتوكُّل على الله سُنَّة نبوية أصيلة، وكان رسول الله يُعْلِن أنه متوكِّلٌ على الله فور خروجه من بيته؛ فقد روى أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟».
ومع أن كل المسلمين يدَّعي التوكُّل على الله؛ فإنهم ليسوا جميعًا متوكِّلين عليه حقَّ التوكُّل، وقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».
وحقُّ التوكُّل يستلزم -فيما أرى- أمرين؛ أما الأول فهو الاعتقاد الجازم بأن النفع والضرَّ بيد الله عز وجل، وأن الأسباب لن تُؤتي ثمارها إلا إذا أراد الله عز وجل، وقد قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، وذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أيضًا؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». فهؤلاء الصفوة كانوا لا يتوقَّعون النفع من الراقي، ولا يتوقَّعون الضُّرَّ من المـُتطَيَّر منه، إنما يتوقَّعون ذلك كله من الله تعالى، فهم متوكِّلون عليه.
والأمر الثاني في حقِّ التوكُّل هو عدم الأخذ بأسباب غير شرعية تغضب اللهَ عز وجل؛ لأن المتوكِّل على الله يعلم أن كلَّ شيءٍ بيده سبحانه، فكيف يُغضبه ثم يتوقَّع التأييد منه؟ فمن فعل هذين الأمرين فهو متوكِّلٌ على الله، ومَنْ تنازل عن واحدة منها فقد يتمُّ عملُه، ولكنه ليس متوكِّلًا على الله، وبالتالي فلن يقبله الله منه، وليس له في الآخرة أجرٌ على هذا العمل، وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
فقلب المتوكِّل على الله مُترَقِّبٌ للآخرة، وقلوب عامَّة الناس لا تُريد إلا الدنيا، ومع أن الله يُؤتي الناسَ ما يسعون إليه في الدنيا مع أنهم غير متوكِّلين عليه؛ فإنه لا يُؤتي الآخرة إلا لمن عمل له سبحانه، فهذه هي سُنَّة التوكُّل، وهي سُنَّة النجاة.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
المقال السابق
المقال التالى