يقص علينا الربيع بن زياد الحارثي طرفًا من زهد عمر فيقول: إنه وفد على عمر بن الخطاب، فأعجبه هيئته- يعني هيئة الربيع- فشكا عمر وجعًا به من طعام غليظ يأكله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بمطعم طيب، وملبس لين، ومركب وطيء لأنت.
وكان عمر متكئًا وبيده جريدة نخل فاستوى جالسًا، فضرب به رأس الربيع بن زياد، وقال له: والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي وإن كنت لأحسب فيك خيرًا، ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؛ إنما مثلنا كمثل قوم سافروا، فدفعوا نفقتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟ قال: لا.
ويسعى عمر رضي الله عنه جاهدًا في أن تكون أسرته، كحاله تمامًا، فيروى ابنه عبد الله يقول دخل عليّ عمر، وأنا على مائدة، فأوسعت له عن صدر المجلس، فقال: بسم الله، ثم ضرب بيده فلقم لقمة، ثم ثَنّى بأخرى، ثم قال: إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم لحم.
فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليا، فاشتريت بدرهم من المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنا، وأردت أن يزاد عيالى عظمًا عظمًا.
فقال عمر: ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر.
فقال عبد الله: عد يا أمير المؤمنين، فلن يجتمعا عندي أبدًا إلا فعلت ذلك.
قال: ما كنت لأفعل.
فينكر عمر رضي الله عنه على ابنه أن يجتمع عنده لونين من الدسم على مائدة، ويدعوه إلى التآسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتصدق بأحدهما.
فما أروع هذا الحاكم الذي يدعوه زهده إلى الشفقة والرحمة برعيته.
فأين الآن ذلك الحاكم؟!
وأين ذلك الإمام الذي يتفانى في مصلحة رعيته؟ !
لقد كان عمر رضي الله عنه يحب رعيته حبًا جمًا، ويحب ما يصلحها، ويكره ما يفسدها، ولا يرى لنفسه من الحقوق إلا كما لأدناهم.
وأما زهده في الملبس فلا يختلف عن زهده في المطعم، فهو لا ينشغل بالثياب ولا يبالى أي الثياب ارتدى مع كونه أمير المؤمنين رضي الله عنه.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:
لقد رأيت بين كتفي عمر بن الخطاب أربع رقاع مُلبدة بعضها على بعض في قميص له، وهو يومئذ أمير المؤمنين.
ويقول أبو عثمان النهدي رحمه الله:
رأيت عمر بن الخطاب، يرمي الجمرة وعليه إزار مرقوع.
من زهده رضي الله عنه أنه ما ضرب له في مسيره فسطاط، ولا خباء.
فهذا عبد الله بن عامر بن ربيعة رحمه الله يقول:
خرجت مع عمر بن الخطاب حاجًّا من المدينة إلى مكة إلى أن رجعنا، فما ضرب فسطاط ولا خباء حتى رجع، وكان إذا نزل يُلقى له كساء، أو نطع على الشجرة، ويستظل تحته.
فوطاؤه إذا ركب، هو فراشه إذا نزل.
ومن زهده رضي الله عنه في المركوب أنه كان لا يحب إلا ركوب ما اعتاد عليه العرب من الدواب، وإن كان غيره أسرع.
يروي أسلم مولى عمر رحمه الله فيقول:
لما قدمنا على الشام أناخ بعيره وذهب لحاجته، فألقيت فروتى بين شعبتى الرحل، فلما جاء ركب على الفرو، فلقينا أهل الشام يتلقون عمر فجعلوا ينظرون، فجعلت أشير لهم إليه.
قال عمر: تطمح أعينهم إلى مراكب من لا خلاق له. يريد مراكب العجم.
ويقول قيس بن أبى حازم رحمه الله:
لما قدم عمر الشام استقبله الناس وهو على بعيره، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو ركبت برذونًا يلقاك عظماء الناس ووجوههم.
قال: فقال عمر: ألا أراكم ههنا، إنما الأمر من ههنا- وأشار بيده إلى السماء- خلوا سبيل جملى.
ويروى طارق بن شهاب رحمه الله فيقول:
لما قدم عمر الشام أتته الجنود، وعليها إزار وخفان و عمامة، وهو آخذ برأس بعيره يخوض الماء، فقالوا له:
يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذا الحال؟ !!
فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره.
وهكذا يعلمنا الفاروق رضي الله عنه أن الزهد في الدنيا ليس المراد به إخراجها من اليد بالكلية، وقعود العبد صفرًا منها.
وإنما المراد إخراجها من القلب بالكلية، فلا يلتفت العبد إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت في يده.
فقد كانت الأموال تأتي إلى بيت المال في خلافة الفاروق، وتصب صبًا، ولا يستطيع المرء لها عدًّا، ومع ذلك لم يأخذ بريقها بأبصار الفاروق رضي الله عنه.
فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهى في قلبك، وإنما الزهد أن تخرجها من قلبك، وهى في يدك.
ومن ثَمَّ نعرف أنه ليس بالضرورى أن يكون الزاهد فقيرًا، أو مسكينا، بل قد يكون غنيًا وصاحب جاه وسلطان؛ لأنه لا منافاة بين كون العبد يملك الشيء في يده، ومع ذلك يزهد فيه.
وما أروع خطاب المولى عز و جل لعباده المؤمنين:
[وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] {القصص: 77}.
لقد بُسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده، وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرف لها بعين، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته في إعزاز دين الله، وخَضْدِ شوكة المشركين، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق رضي الله عنه.
تفضيل أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في العطاء:
كان عمر رضي الله عنه يقسم المال ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف، فقال: يا أبت فرضت لأسامة بن زيد أربعة آلاف، و فرضت لى ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لك، وما كان له من الفضل ما لم يكن لى. فقال عمر: إن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك.
أم سليط أحق به:
عن ثعلبة بن أبى مالك أنه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطا بين نساء أهل المدينة، فبقى منها مرط جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التى عندك- يريدون أم كلثوم بنت على- فقال عمر: أم سليط أحق به. وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: فإنها كانت تَزْفِر لنا القِرَب يوم أحد.
.
هذه بعض المواقف التى تدل على ترفع عمر عن الأموال العامة ومنع أقربائه وأهله من الاستفادة من سلطانه ومكانته، ولو أن عمر أرخى العنان لنفسه أو لأهل بيته لرتعوا ولرتع من بعدهم، وكان مال الله تعالى حبسا على أولياء الأمور
وكان رضي الله عنه يزهد في الإمارة لأولاده وها هو يقول:
أعياني أهل الكوفة، إن استعملت عليهم لينًا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا شكوه، ولوددت أني وجدت قويًا أمينًا مسلمًا استعمله عليهم.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أنا والله أدلك على رجل قوي أمين، فأثنى عليه قال: من هو؟ قال: عبد الله بن عمر. قال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت اللهَ بها.
ومن القواعد الطبيعية المؤيدة بالمشاهد أن الحاكم إذا امتدت يده إلى مال الدولة اتسع الفتق على الراتق، واختل بيت المال أو مالية الحكومة، وسرى الخلل إلى جميع فروع المصالح، وجهر المسر بالخيانة، وانحل النظام، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان ذا قناعة وعفة عن مال الناس زاهدا في حقوقهم دعاهم ذلك إلى محبته والرغبة فيه، وإذا كان حاكما حدبوا عليه وأخلصوا في طاعته وكان أكرم عليهم من أنفسهم.
ومن خلال حياته مع أسرته وأقربائه يظهر لنا معلم من معالم الفاروق في ممارسة منصب الخلافة وهى القدوة الحسنة في حياته الخاصة والعامة، حتي قال في حقه علي بن أبى طالب: عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا. وكان لالتزامه بما يدعو إليه، ومحاسبته نفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته وعماله الأثر الكبير في زيادة هيبته في النفوس وتصديق الخاصة والعامة له.
هذا هو عمر الخليفة الراشد الذي بلغ الذروة في القدوة، رباه الإسلام فملأ الإيمان بالله شغاف قلبه، إنه الإيمان العميق، الذي صنع منه قدوة للأجيال، ويبقى الإيمان بالله والتربية على تعاليم هذا الدين سببا عظيما في جعل الحاكم قدوة لكل الرعية، ومثالا يُحتذى للجميع.
|