عُرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالفاروق فما معنى ذلك اللقب؟
الفاروق: ما فرّق بين شيئين، ورجل فاروق، يفرق بين الحق والباطل.
وقيل: لأن الله جعل الحق على لسانه.
وقيل: إنه أظهر الإسلام بمكة ففرق بين الكفر والإيمان.
وقد اختلف السلف فيمن سَمَّاه بذلك، فقال بعضهم: سماه بذلك أهل الكتاب، وقد روى ذلك الزهري بلاغًا ولا يصح.
ويقول أبو نعيم في حلية الأولياء.
وخرج صلى الله عليه وسلم في صفين، عمر في أحدهما، وحمزة على الآخر، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخل المسجد فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق.
حازم في حكمه
يقول سويد بن غفلة رحمه الله: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب وهو بالشام يستعدي على عوف بن مالك الأشجعي أنه ضربه وشجه، فسأل عمر عوفًا عن ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع، ثم دفعها فجرت عن الحمار، ثم تغشاها، ففعلت ما ترى.
فذهب إليها عوف، وأخبرها بما قال لعمر، فذهبت لتجئ معه، فانطلق أبوها وزوجها فأخبروا عمر بذلك.
قال: فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم، فأمر به فصلب، ثم قال: يا أيها الناس: فُوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن فعل منهم هذا، فلا ذمة له.
وفي رواية عوف بن مالك رضي الله عنه قال: إن رجلًا يهوديًا أو نصرانيًا نخس بامرأة مسلمة ثم حثا عليها التراب، يريدها على نفسها، فرُفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن لهولاء عهدًا ما وَفُّوا لكم بعهودهم، فإذا لم يفوا لكم بعهدكم فلا عهد لهم. قال: فصلبه عمر.
فالأمن والأمان لمن أوفى بالعهود والمواثيق، وضرب الرقاب لمن خان العهد، وغدر بما عليه أخذ العهد والذمة.
هذا الأدب الفريد، وتلك الأخلاق السامية في مجال القتال هي ما تعلمه الفاروق من دينه القويم، وما اتصف به من أخلاق النبي الأُمي صلى الله عليه وسلم، وتلك المكارم مجتمعة هي سمات الإمام الرباني المحب للجهاد في سبيل الله، وابتغاء ثوابه.
فما أحوج أهل الإسلام اليوم قادة كانوا أو جنودًا إلى تلك المثل الجهادية الرائعة، التي تظهر صورة سامية من صور الإسلام الشامخ.
يروي عاصم بن عمر فيقول: إن عمر رضي الله عنه قدم عليه مال، فأمر به إلى بيت المال، فجئت وأنا غليّم وعليّ أزير فوجدت درهمًا فأخذته، فقال لي: من أين هذا الدرهم لك يا عاصم؟
قلت: أعطتنيه أمي، فأرسل إلى أمه: أعطيت عاصمًا درهمًا؟
قالت: لا. قال: أخبرني خبره؟
قلت: وجدته في الحجر- أو قال في الفناء- فأخذه مني، ودفعه إلى رجل وقال: اذهب به فألقه بين الخوخة والباب.
عزل الولاة
لم يكن عمر يرضى بأن يهتم بحسن اختيار الولاة فحسب، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم، ليطمئن على حسن سيرتهم، ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خير لي أن أعزل كل يوم واليًا من أن أُبْقي ظالمًا ساعة نهار.
وكان من حزم عمر رضي الله عنه مع ولاته أنه كان يطلب منهم أشياء عن طريقها يضبط أمورهم.
|
|
مواقف أخرى من حزم الفاروق رضي الله عنه |
(جاء في صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله: سواء عليهم أستغفرت لهم... حديث 4905) حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ- قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فِي جَيْشٍ- فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
ومشهد آخر
في موقف حاطب بن أبي بلتعة عندما أرسل إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم- كما في (البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء... حديث 4890)-
: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَصْطَنِعَ إِلَيْهِمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
وفي (أسد الغابة جزء 1- صفحة 1251)
عَنْ أَبِي الْمُنْذِرِ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانًا هَلَكَ فَصَلِّ عَلَيْهِ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ فَاجِرٌ فَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسَولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَرَ اللَّيْلَةَ الَّتِي صِحْتَ فِيهَا فِي الْحَرَسِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ تَبِعَهُ حَتَّى جَاءَ قَبْرَهُ فَقَعَدَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُ حَثَا عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَقَالَ: مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. أخرجه أبو نعيم وأبو موسى.
وفي أعقاب غزوة بدر جاء عمير بن وهب إلى المدينة قبل إسلامه يريد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من أصحابه يتحدثون عن بدر، ويذاكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، هو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، حضر عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحًا سيفه. قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بجمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر. ادن يا عمير. فدنا ثم قال: انعموا صباحًا- وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا إليه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئًا. قال: اصدقني، ما الذي جئت به له. قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَيْن عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني به، والله حائل بينك وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك لرسول الله.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دِينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا.
ومن هذه القصة يظهر الحس الأمني الرفيع الذي تميز به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب، وحذر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشر، فقد كان تاريخه معروفًا لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرص على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في الأخذ بالأسباب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشدة فعطله عن إمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر نفرًا من الصحابة بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن كلامه رضي الله عنه ما يدل على حزمه:
(الطبقات الكبرى جزء 8- صفحة 182)
وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار، فصحت على امرأتي، فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني ذلك، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن. ثم جمعت عليّ ثيابي، فنزلت فدخلت على حفصة بنت عمر، فقلت: يا حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله يوما إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فيهلكك؟ لا تستكثري على رسول الله، ولا تراجعينه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرك إن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله. |
|