قال الله تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [يونس: ١٦]، (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: ٣٣].
لما كانت رسالة محمد هي الرسالة الخاتمة لكل الرسالات السابقة للناس كافة في كل مكان وزمان، فقد احتاجت إلى حشد كل الدعائم لتأييدها وللإيمان والتصديق بها وعدم التكذيب لها.
فكانت بعثة رسول الله عند الأربعين من عمره هي إحدى الدعائم المؤيدة لدعوته .
لقد نشأ رسول الله بينهم عفيفًا طاهرًا طيب النفس عظيم الخلق أمينًا صادقًا، فلم تشهد قريش والبشرية قاطبة مثل حسن خلق وكريم شمائله ولا أمانة كأمانته ولا صدقًا كصدقه .
ومما يدلل على هذا أن أهل مكة أنفسهم هم الذين لقبوا محمدًا بالصادق الأمين منذ نشأته وقبل بعثته لما رأوا خصاله r الحميدة وشمائله الطيبة لا سيما الصدق والأمانة.
فعند تحدثهم عنه r كانوا ينطقون بنعته وصفته قبل اسمه فيقولون الصادق الأمين وإن هاتين الواقعتين اللتين ذكرناهما سابقًا شاهدتين على ما قلناه:
أ- الواقعة الأولى: ما جرى عند بناء الكعبة وقضية التحكيم، فعندما اتفق أهل مكة على أن يحكموا بينهم أول من يدخل عليهم، كان أول من دخل هو رسول الله r فلما رأوه قالوا جميعًا في صوت واحد: هذا الأمين رضينا، هذا محمد.
ب- لما نزل قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد رسول الله r على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)) قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا.
لقد بعث رسول الله وهو في الأربعين من عمره مع أن غيره الكثير من الرسل بعثوا وهم أقل من الأربعين بكثير مثل يحيى عليه السلام.
قال الله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم: ١٢].
وغيره الكثير، فما الحكمة إذن من بعثة رسول الله عند الأربعين من عمره؟
الحكمة من بعثة رسول الله عند الأربعين من عمره:
الحكمة وإن علمنا بعضها فإننا نجهل أكثرها: أن كما قلنا أن هذه الرسالة التي بعث رسول الله r بها هي الرسالة التي ختمت بها جميع الرسالات السابقة، فهي للناس كافة وقد احتاجت إلى حشد كل الدعائم لتأييدها والإيمان بها.
فكانت مدة عمر رسول الله قبل رسالته هي إحدى الدعائم المؤيدة لرسالته للإيمان والتصديق بها، فهو r الصادق الأمين الذي لم يشهدوا أمانة كأمانته ولم يجربوا عليه إلى صدقًا.
قال الله تعالى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: ٣٣].
فأهل مكة لا يستطيعون أن يكذبوا رسول الله أو يكذبوا دعوته، ولكنه الكفر والعناد والجحود، فمدة عمر رسول الله قبل البعثة هي في ميزان نجاح دعوته، وهي من دلائل صدق وأمانة رسالته .
قال الله تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [يونس: ١٦].
لقد بعث رسول الله r في الأربعين من عمره، بعد مرور شرخ الشباب وهو الوقت الذي تجيش فيه الصدور بالآمال والأماني.([1])
فلم تبد منه r كلمة تلميح بالرسالة أو إشارة للنبوة، وفي الوقت الذي تهدأ فيه النفوس الثائرة، وتسكن فيه الآمال الفائرة أعلن رسول الله r دعوته ورسالته العامة الشاملة لكل الذين في عهده، وكل الذين يجيئون من بعده، فهي الرسالة الخاتمة.([2])
فهذا الوقت الذي بعث فيه النبي محمد r الأربعين من عمره هو من دلائل نبوته، وأن اختيار وقت البعثة والرسالة هو من الله سبحانه وتعالى الحكيم الخبير؛ لأن من المعلوم أنه إلى أن تنتصر دعوة رسول الله r وإلى أن تنتشر هذه الرسالة العظيمة فإنها تحتاج إلى الوقت والجهد الطويل والصبر الجميل العظيم- سنة الله عز وجل- وكل هذا وعمر رسول الله r يتقدم به إلى المرحلة المتأخرة من العمر ونهايته.
فما الذي كان يبغيه جراء هذا كله من إعلان رسالته في هذه المرحلة وليس قبلها، وهو الذي أشاد له الجميع وشهدوا برجاحة عقله وفكره ومنطقه؟ وعلام يدل؟
ليس إلا أنه هو رسول الله عز وجل أعلن رسالته في الوقت الذي اختاره وقدره له ربه تبارك وتعالى وأنه على يقين من أمر دعوته ومن نصر الله سبحانه وتعالى لها، وأنه سبحانه وتعالى هو القادر على أن يسخر كافة مخلوقاته لنصر هذه الرسالة الخاتمة في الوقت الذي اختاره عز وجل لها تحت أي ظرف كان.
لقد أعلن رسول الله في الأربعين من عمره رغم ما علمه من وفاه أبيه في صغر عمره وكان رسول الله آنذاك جنينًا في بطن أمه.
أعلن رسول الله رسالته وهو في الأربعين من عمره رغم ما شاهده من وفاة أمه في صغر عمرها وهو في السادسة من عمره.
أعلن رسول الله r رسالته في الأربعين من عمره رغم وفاة جده عبد المطلب بعد انتقاله إليه بمدة قصيرة جدًا ثم توفي أمامه عمه أبو طالب.
قال الله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) [الضحى: ٦].
فما الذي اضطره r لأن يعلن رسالته وهو في الأربعين من عمره وليس دون هذا العمر في ريعان الشباب؟
ومن الذي أخبره وأعلمه بأنه r سيطول به العمر للأربعين ولما بعد الأربعين وإلى أن تنتصر دعوته ورسالته؟
وما الذي جعله على يقين من أمر دعوته ونجاحها مع علمه بوفاة والده ومشاهدته لوفاة والدته وهما في مقتبل عمرهما وصغر سنهما؟ وعلام يدل كل هذا؟
لا شك أن الذي اختار له وقت رسالته هو الله سبحانه وتعالى الحكيم الخبير وأنه سبحانه وتعالى العليم القدير، يعلم عمر رسوله وأنه سيطول به العمر إلى أن يأتي وقت البعثة والرسالة وإلى أن تنتصر دعوته وتنتشر رسالته.
وأنه سبحانه وتعالى العليم الخبير هو الذي جعل رسوله على يقين من أمر دعوته ونجاحها رغم الأحداث التي مرت به وكل هذا يدل على: أن محمدًا هو رسول الله حقًا وصدقًا.
* * *
([1]) (2) الرسالة المحمدية /محمود عبدالوهاب فايد