يروي أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، وخرجت معه، حتى دخل حائطًا، فسمعته يقول، وبيني وبينه حائط، وهو في جوف الحائط:
عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك ".
وقدم على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر (معمم بعباءة), يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة (أى يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم، والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلًا تأمر عبدا من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد منى، ومن الأحنف؟ إنه من ولى أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغى لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة؛ فأردت أن أكسرها.
وعن جبير بن نفير: أن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلا أقضى بالقسط، ولا أقول للحق ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله. فقال عوف بن مالك: كذبتم والله، لقد رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي. يعنى قبل أن يسلم؛ لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين.
وهذا يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنه يعم منهم الموتي كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكرهم، ويظل يذكرهم بالخير في كل موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل، وعدم نسيان ما قدموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال من رجال إلى رجال، فلا ينسى العمل الطيب بغياب صاحبه أو وفاته وفي هذا وفاء وفيه إيمان.
ونجد من شمائل الفاروق رضي الله عنه خوفه من الله عز وجل، ونرى ذلك الخوف واضحًا جليًا في أفعاله وأقواله، كان يبكي رضي الله عنه ويكثر البكاء، ويذهب إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول له: أستحلفك بالله، أأنا من المنافقين؟ ويقول ابن عباس رضي الله عنه: دخلت على عمر حين طعن، فقلت أبشر يا أمير المؤمنين، والله لقد مصر الله بك الأمصار، وأوسع بك الرزق، واظهر بك الحق، ودفع بك النفاق. فقال عمر: أفي الإمارة تثنى عليّ يا ابن عباس؟ ! قال: نعم يا أمير المؤمنين وفي غيرها.
قال: فوالذي نفسي بيده، لوددت أني أنجو منها كفافًا، لا أوجر ولا أوزر، والله لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر،
فوالله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.
وقال له ابن عباس مثنيًا عليه: أبشر بالجنة، صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلت صحبته، ووليت أمر المؤمنين فقويت، وأديت الامانة.
فقال عمر: أما تبشيرك إياي بالجنة، فو الله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر. وأما قولك في إمرة المؤمنين فوالله لوددت أن ذلك كفافًا لا لي ولا عليّ. وأما ما ذكرت من صحبة نبي الله صلى الله عليه وسلم فذلك.
وقد كان الفاروق رضي الله عنه واحدًا من المتواضعين فحاز كمال الإيمان ونال رضا رب العالمين.
فهذا موقف من مواقف تواضع الفاروق رضي الله عنه يرويه لنا طارق بن شهاب (رحمه الله) فيقول:
لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، ثم أخذ بخطام راحلته وخاض المخاضة، فقال أبو عبيدة بن الجراح:
لقد فعلت يا أمير المؤمنين فعلًا عظيمًا عند أهل الأرض، نزعت خفيك وقدمت راحلتك، وخضت المخاضة.
قال: فصك عمر بيده في صدر أبي عبيدة وقال:
أوه.. لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة!
أنتم كنتم أقل الناس، وأذل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله تعالى.
ما أروعها من كلمات.
وما أعظمه من موقف.
فالفاروق لا يرى العز والشرف إلا في نعمة الإسلام، ومن اعتز بأي عرض من أعراض الدنيا من مال وجاه، أو غيرهما أذله الله.
والمتأمل في الموقف يشاهد تواضع الفاروق رضي الله عنه في عبوره المخاضة، وعدم اكتراثه لنظرات الناس إليه.
فالمتواضع لا يبحث عن السمعة والرياء، ولا يأنف من السير على أقدامه، أو خوض مخاضة، ولو كان أمير المؤمنين.
حتى عندما لقب بأمير المؤمنين تعجب الفاروق المتواضع من هذا اللقب، وخشي أن يعني التزكية، وطلب من قائله إبراء نفسه مما قال؛ يروي الزهري رحمه الله يقول: إن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة: لأي شيء كان يكتب: من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان عمر يكتب أولا: من خليفة أبي بكر، فمن أول من كتب: من أمير المؤمنين؟
فقال: حدثتني الشفاء ـ وكانت من المهاجرات الأول ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين، يسألهما عن العراق وأهله، فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فلما قدما المدينة أناخا راحلتهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد، فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين.
فقال عمرو: أنتما أصبتما اسمه، هو الأمير، ونحن المؤمنون، ووثب عمرو فدخل على عمر أمير المؤمنين، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا ابن العاص؟ ! ربي يعلم، لتخرجن مما قلت؟ قال: إن لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم قد أناخا راحلتهما بفناء المسجد، ثم دخلا عليّ فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين. فهما والله قد أصابا اسمك، ونحن المؤمنون، وأنت أميرنا.
قال فمضى به الكتاب من يومئذ، وكانت الشفاء جدة أبي بكر بن سليمان. |