بعد انتصار المسلمين في مهرة جمع عكرمة الجيش ليذهب به إلى اليمن.
وكان المتجه إلى اليمن جيشان من المدينة الجيش العاشر بقيادة المهاجر بن أمية، والجيش الحادي عشر بقيادة سويد بن مقرن، وكان سويد بن مقرن متجها إلى تهامة، أما المهاجر بن أمية فوجهه أبو بكر إلى صنعاء، وكان بها أغلب المرتدين.
وقبل الحديث عن الجيش العاشر نذكر نبذة عن تاريخ اليمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظهر في اليمن رجل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يدعي النبوة وهو الأسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب، وتبع الأسود العنسي الكثير من المرتدين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن بعد أن أسلم أهلها ليعلمهم ويفقههم، وكان أمير اليمن رجل يدعى شهر بن باذان.
وباذان هذا هو باذان بن بهرام الذي بعثه كسرى ليأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا أوميتا، وذهب باذان هذا إلى المدينة، وعسكر بجبشه خارج المدينة وبعث أميرين إلى المدينة ليتحسسا الأخبار في المدينة، وكانا عاقلين فوجدهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما:
إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكُمَا اللَّيْلَةَ.
فقالا لباذان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم
فقال لهما احفظا هذه الليلة، فبعث إلى كسرى فوجده، قد قتل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان، ومن معه وولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن، ولما مات ولى النبي صلى الله عليه وسلم من بعده ابنه شهر بن باذان.
وظهر الأسود العنسي في إمارة شهر بن باذان وكان معاذ بن جبل يعلم الناس في ذلك الوقت.
وقام الأسود العنسي بجيشه على شهر، وقتله، وتزوج امرأته، وكانت امرأة صالحة إلا أنه تزوجها قهرًا.
واضطهد الأسود العنسي المسلمين فكان يقتل كل من يعرف أنه مسلم، وهرب معاذ بن جبل إلى حضرموت، وانقسم من ثبت من المسلمين إلى قسمين البعض هرب مع معاذ إلى حضرموت، وكان واليها من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه طاهر بن أبي هالة، وكان من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بقي في اليمن عامل الأسود العنسي بالتقية.
واشتد أمر الأسود العنسي، وكان له جيش كبير، وكان له ثلاثة قادة أحدهما قيس بن مكشوح، والثاني داذويه، والثالث فيروز الديلمي.
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأسود العنسي وادعاءه للنبوة، بعث صلى الله عليه وسلم برسالة مع وبر بن يحنس إلى معاذ بن جبل؛ ليجمع حوله المسلمين، ويقاتلوا الأسود العنسي حتى يقتله.
وبدأ معاذ بن جبل في تجميع المسلمين سواء من أخفوا إسلامهم، أو من كانوا معه في حضرموت.
وفي ذلك الوقت فكر القواد الثلاثة المرتدين أن ينقلبوا على الأسود العنسي ليأخذوا منه قيادة اليمن، فعلم بذلك الأسود العنسي فأحضر مائة من الإبل وخط خطًا وجمع أهل صنعاء جميعًا وعزم على قتل الإبل بمفرده ليعلم أهل صنعاء قوته، وشدة بأسه، ثم أحضر القواد الثلاثة، وقال لهم سمعت بأنكم تريدون الاستقلال بالجيوش، فلما رأوا من شدة بأسه، وقوته خافوه وآمنوا بنبوته وإن كان في قلوبهم الانقلاب عليه.
ولما علم معاذ بن جبل بأمر القواد الثلاثة وتفكيرهم في الانقلاب على الأسود العنسي بعث معاذ برسالة إلى قيس بن مكشوح سرًا كالذي بعثها عكرمة إلى شخريط، فيقول له: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وجنود الطاهر بن أبي هالة في حضرموت لك مدد.
وأرسل قيس إلى داذويه، وفيروز الديلمي، واتفقوا على الدخول في الإسلام ليساعدهم جيش المسلمين في تحقيق هدفهم، وهو القضاء على الأسود وجيشه.
كانت امرأة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود العنسي قهرًا امرأة صالحة وذات دين، وكانت ابنة عم فيروز الديلمي، فراسلها فيروز الديلمي سرًا لتعاونهم على قتل الأسود العنسي، فوافقت على ذلك وحددت لهم ليلة، وحددت لهم بابًا لا يقف عليه أحد من الحراس، وتسلل القواد الثلاثة إلى قصر الأسود العنسي في الليلة المتفق عليها، وفتحت امرأة الأسود الباب بعد أن سقته من الخمر، فدخل عليه فيروز الديلمي، فوجده قد سكر سكرًا شديدًا، فخنقه بيده حتى ظن أنه قد مات، ولما دخل عليه القواد الثلاثة ليعلنوا موته وجدوه حيًا، فهجموا عليه، وتقدم إليه قيس بن مكشوح، فذبحه، فتقول امرأته: ما رأيت خوار رجل كخوار الأسود العنسي.
وصرخ صرخة جاء على أثرها الحراس، فخرجت إليهم زوجته، وقالت: إن النبي يوحى إليه.
فخرجوا، ومضت تلك الليلة، وخبأ قيس بن مكشوح رأس الأسود العنسي، ثم خرج على أهل صنعاء في اليوم التالي بعد أن جمعهم ليعلن إسلامه، وإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن الأسود العنسي كذاب ورمى لهم برأسه، فهرب المرتدون، وانقض عليهم المسلمون يقتلونهم، وجاء الطاهر بن أبي هالة بجيشه، وفيه معاذ بن جبل، ودخل اليمن، وعاد الناس إلى الإسلام مرة أخرى، وأثناء هذه الأحداث يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة: يُقْتَلُ الْآنَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَيَقْتُلُهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ.
فقالوا: من يا رسول الله؟
فقال: فَيْرُوزُ فُيْرُوزُ فَيْرُوزُ.
وكان هو الذي سارع بقتله في بادئ الأمر، وشاركه قيس بن مكشوح.
وأنبأهم النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسود في الوقت الذي قتل فيه.
بعد قتل الأسود العنسي وسيطرة المسلمون على اليمن يرسل المسلمون رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسود العنسي، ووصل البريد إلى المدينة صبيحة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع البريد إلى اليمن ليخبرهم بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المسافة بين اليمن والمدينة مسيرة ثلاثة أيام.
فلما وصلهم خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا، فبعد دفاعهم عن الإسلام ارتدوا، وكان على رأس المرتدين قيس بن مكشوح، وبمكيدة منه قتل داذويه الأمير الثاني، وحاول قتل فيروز الديلمي، إلا أن جارية أخبرته بمكيدة قيس بن مكشوح، فهرب فيروز الديلمي، وهرب معاذ بن جبل أيضًا إلى حضرموت عند الطاهر بن أبي هالة.
وسيطر قيس بن مكشوح ومعه جيش المرتدين على المنطقة مرة أخرى، وعلم بذلك أبو بكر الصديق، فوجه إلي اليمن الجيش العاشر، وكان على رأسه المهاجر بن أمية، ولما علم المسلمون في حضرموت خبر هذا الجيش راسلوه وتواعدوا على موعد دخول اليمن، ودخل معهم من داخل صنعاء فيروز الديلمي بجيش، وفيروز لم يرتد كما ارتد قيس بن مكشوح، واجتمعت الجيوش الثلاثة، وقاتلوا قيس بن مكشوح قتالًا شديدًا، وكتب الله النصر للمسلمين، واستسلم قيس بن مكشوح، واستسلم معه عمرو بن معدي كرب، وكان من الصحابة إلا أنه قد ارتد في اليمن، وأرسلهما معاذ بن جبل إلى أبي بكر الصديق مع أحد الرسل، وفي الطريق أسلما قبل أن يصلا إلى المدينة، وقبل منهما أبو بكر بعد أن عنفهما بشدة.
وبعد هذا الانتصار الساحق سيطر المسلمون على اليمن ولم تعد إلى الردة مرة أخرى بفضل الله تعالى.
أما الجيش الحادي عشر لم يلق هذا الجيش قتالًا في منطقة تهامة بعد أن سيطر المسلمون على اليمن فقد رجع الناس إلى دينهم.
وانتهت هذه الفتنة
بذلك انتهت حروب الردة، وبفضل الله كتب الله النصر للمسلمين في كل المواقع، ولم يبق على الجزيرة العربية مرتد واحد بعد أن ارتدت كل الجزيرة العربية.
واستمرت هذه الحروب سنة كاملة، فقد انتهت الحروب في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من الهجرة.
وانتهت بانتهاء حروب الردة فترة من أشد الفترات التي مرت على المسلمين وأصعبها، وكاد أن يضيع الدين لولا أن الله قيض له رجلًا كأبي بكر الصديق، ولعل هذه الحروب كانت تثبيتا لأقدام الإسلام في الجزيرة العربية، ليستكمل المسلمون جهادهم في الدعوة إلى الله بفتح بلاد فارس والروم.
بعد انتهاء خالد من بني حنيفة، وانتصاره عليهم، بعث إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأن يتوجه لفتح فارس، وألا يُكْرِهَ أحدًا على الخروج معه، بالرغم من كون هذا الأمر عجيبًا؛ لأن الجزيرة لم تلتقط أنفاسها بعد، في أعقاب ما كانت تموج به من الفتن, وما قامت بها من حرب أهلية طاحنة، كادت أن تعصف بالدولة الإسلامية. |