وكان هذا الجيش متجها إلى قبيلة بني حنيفة التي فيها مسيلمة بن حبيب الكذاب، وحتى نستطيع أن نستوعب قيمة المعركة، وقيمة اتجاه الجيش الثاني والثالث المتجهَيْن إلى هذه القبيلة، نتحدث قليلا عن تاريخ بني حنيفة، وكيف بدأت الردة في بنى حنيفة؟
كيف انتقلوا من الإيمان إلى الكفر؟
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته، قدمت الوفود من كل الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان من ضمن هذه الوفود، وفد بني حنيفة، جاء عدد كبير منهم، وكان قد أسلم منهم قبل ذلك ثمامة بن أثال، وهذا الرجل صحابي جليل من الذين آمنوا، وحسن إسلامهم، وهو لم يأت مع قومه، بل أَسَرَه محمد بن مسلمة، وهو قافل من غزوة القرطاء، وعامله الرسول صلى الله عليه وسلم بإحسان، فأسلم، ثم عاد إلى قومه، ثم أتى بمجموعة من قومه ليسلموا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى القوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبايعوه صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء قوم يبايعوه على الإسلام أن يعطيهم عطاءً، حتى يؤلف قلوبهم، فأعطاهم، فَقَالُوا:
يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبًا لنا في رِحالِنا وفي رِكابِنا يحْفظها لنا.
يعني لم يأت معهم لهذه المبايعة، ولكنه ظل مع متاعهم، وإبلهم خارج المدينة؛ ليقوم بحراستها، وكان مسيلمة بن حبيب هو الذي ظل مع متاعهم ليحرسها لهم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال:
أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا.
أي لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهَوْا إلى اليَمَامَةِ ارْتَدّ عَدُوّ الله، وَتَنَبّأَ، وَتَكَذّبَ لهم، وقال:
إني قد أشركت في الأمر معه.
وقال لوفده الذين كانوا معه:
ألم يقل لكم حين ذَكَرْتُمُونِي له أما إنه ليس بشركم مكانا؟
ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه.
ومسيلمة بن حبيب يشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، ويشهد أنه رسول الله، لكنه يقول أنه أُشرك في الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي نصيبه من النبوة، كما أَوّله هو لنفسه، فقالوا له:
ألا تدخل فتبايع.
فدخل يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن تركهم عند الإبل، فجلس مع أحد الناس من قبيلته، يحدثه، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى بعدُ فقال له:
ألا تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: أبايعه إن يجعل لي الأمر من بعده.
فعلق شرط المبايعة أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم له الأمر من بعده، وكان صلى الله عليه وسلم يمر من ورائه، فسمعه، وهو يقول:
أبايعه على أن يجعل لي الأمر من بعده.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في يده عود من جريد، وقيل كان معه سواك، فقال له:
يَا مُسَيْلِمَةَ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعُودَ مَا أَعْطَيْتُهُ لَكَ، وإنى أرى فيك الذي أُريته ويحدثك ثابت بن قيس فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يحدثه.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤية، فحدث بها الصحابة، وعلم بهذه الرؤية ثابت بن قيس، ولم يحدثه النبي صلى الله عليه وسلم لكفره الشديد، وترك ثابت بن قيس يكلمه، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك مسيلمة فحدثه ثابت ابن قيس بالرؤيا التي رآها فكان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد رأى في المنام أنه قد أوتي له بخزائن الأرض، وأنه يلبس في يديه سوارين من ذهب، فكرههما الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذهب محرم على الرجال، فكره أن يكون في يديه سوارين من ذهب فأوحي إليه أن أنفخهما، وفى رواية أخرى أن جربيل قال له:
انفخهما.
فنفخهما، فطارا، وقد أولهما النبي صلى الله عليه وسلم أنهما كذابان يخرجان في قوم، فهذا أحدهما مسيلمة بن حبيب، ثم ظهر الكذاب الآخر، وهو الأسود العنسي في اليمن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة في قبيلة أسد، فقد ظهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسجاح التي ادعت النبوة ظهرت بعد الرسول، أما في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر مسيلمة بن حبيب والأسود العنسي.
%عاد مسيلمة بن حبيب إلى بني حنيفة، وأخذ يدعو بدعوته أنه نبي، وقد أُشرك في الأمر مع محمد فآمن له بعض قومه، ثم أراد أن يكتب رسالة، أو خطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُثبت دعائم نبوته في الجزيرة العربية، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة مع رجلين من قومه قد آمنا بدعوته يقول:
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، إني قد أُشركت في الأمر معك، فلنا نصف الأرض، ولكم نصف الأرض، أو تجعل لي الأمر من بعدك، ولكني أعلم أن قريشا قومًا يعدلون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين:
أَأَنْتُمَا عَلَى دَعْوَتِهِ؟
فقالا: نعم.
فقال:
لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتَكُمَا.
فحفظ دماءهما لأنهما رسوليْن، ثم أعاد الرسوليْن إلى مسيلمة بن حبيب، وكتب صلى الله عليه وسلم رسالة، وأعطاها إلى حبيب بن زيد أحد الصحابة الشباب، وقال له:
اذْهَبْ بِهَا إِلَى مُسَيْلِمَةَ.
قال في رسالته صلى الله عليه وسلم:
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ- وهذه أول مرة يطلق عليه الكذاب- السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
فهذا الأمر ليس من اختيارك أنت، فقد اختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يخترك، فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أسر حبيب بن زيد رضي الله عنه, وقيده، فكان إذا قال له:
أتشهد أن محمدًا رسول الله؟
قال: نعم.
وإذا قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: أنا أصم لا أسمع.
ففعل ذلك مرارًا، فقطعه مسيلمة عضوًا عضوًا، فمات شهيدًا رضي الله عنه. فكان هذا الأمر شديدا على المسلمين؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هذين المرتدين؛ لأنهما رسولان مع أن المرتد يحل دمه، ومع ذلك حفظ الرسول الله صلى الله عليه وسلم دمهما ولم يقتلهما، ولكن هذا الرجل المرتد قتل الصحابى الجليل، فشق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث له جيشًا يقاتله، أو يردُّه إلى الإسلام، ولكنه في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم كان مشغولا بتجهيز بعث أسامة بن زيد إلى حدود الشام، وكان ذلك قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعظم الصحابة كانوا في جيش أسامة، فلم يكن هناك وقت، ولا قوة، وطاقة ليبعثها إلى بني حنيفة، وكان قد ارتد مع مسيلمة في ذلك الوقت جموع غفيرة تقدَّر بعشرة الآلاف.
وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى بني حنيفة مَن يردهم للإسلام، ويُعلمهم، فاختار رجلًا منهم؛ حتى يكون أقرب للسان قومه, ولعلهم يستجيبون له أكثر من غيره، وهو صحابي اسمه نهار الرَجَّال، أو نهار بن عنفوة، وكان قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، وكان قد حفظ من القرآن الكثير، وكان مما حفظه سورة البقرة، فكان من أهل البقرة، وكان أهل البقرة معروفين بالمدينة؛ وذلك لفضل سورة البقرة، فوثق الرسول صلى الله عليه وسلم من دينه, وأرسله حتى يُعلم بني حنيفة الإسلام، فأتى هذا الرجل مسيلمة الكذاب في خيمته، وجلس معه طويلًا، فاجتمع بنو حنيفة حول الخيمة؛ ليعرفوا ما الذي يسفر عنه اجتماع مبعوث محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة؟
وهل مسيلمة على الحق؟
وهل أُشرك في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول؟
أم أن محمدًا قد بعث من يُكذِّبه؟
اجتمع القوم مسلمهم ومرتدهم حول خيمة مسيلمة, وطال الحديث بين مسيلمة الكذاب وبين نهار الرجَّال، ثم خرج نهار الرجال فسأله القوم:
ما يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسيلمة؟
وكان القوم يعتقدون أن محمدًا رسول الله حتى المرتد منهم, ولكنهم يزعمون أن مسيلمه أشرك في الأمر معه، حتى أنهم ما زالوا يصلون الصلوات،
فإذا بالرَّجَّال يقول:
لقد أُشرك مسيلمة في الأمر مع محمد.
وارتد الرجل.
وفي هذا الموقف يجدر بنا القول أن الحق لا يُعرف بالرِّجال، مسيلمة بن حبيب الكذاب كان قد قال من الآيات الكثير التي هي من سخافات القول، أو من خرافات القول، فكيف صدق هؤلاء القوم ذلك الكذاب، ثم كانت فتنة أكبر حين خرج عليهم نهار بن عنفوة بكذبه، وردته هو الآخر، وهو مبعوث محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة، وفي هذا اليوم فقط ارتد من بني حنيفة أربعون ألفا، فأصبح جيش مسيلمة خمسين ألفا، وانقسمت بنو حنيفة،
فخمسون ألفا على الإسلام، وخمسون ألفا ارتدوا، أربعون ألفا منهم في يوم واحد على يد هذا الرجل نهار الرَّجال، فسبحان الله لا يأمن أحد شر الفتنة، فبعد أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظ البقرة، ارتد بعد أن وعده مسيلمة الكذاب بإمارة، ووزارة، فارتد، واختار أن يعيش حياة الكفر مع هذا الكذاب المرتد، فقويت شوكة مسيلمة بن حبيب الكذاب، وأصبح له جيش تعداده خمسون ألفا، وانقلبوا على المسلمين من قبيلتهم يعذبونهم، وكان فيهم ثمامة بن أثال الصحابي الجليل، فبدأ ثمامة بن أثال يقاتل مسيلمة الكذاب، لكن قوة مسيلمة الكذاب كانت قوية، فالمسلمون الموجودون في بني حنيفة لم يقاتلوا كلهم مع ثمامة بن أثال، فمجموعة منهم قاتلوا معه، ومجموعة أخرى كانت منتظرة النتيجة، هم مسلمون، لكنهم لم يقاتلوا الكذاب مع ثمامة.
وفي هذه اللحظة يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصلت الأنباء إلى بني حنيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي، فارتدت بقية القبيلة، الخمسون ألفا الباقية، وأصبحت القبيلة كلها مرتدة، ولم يبق فيها إلا قلة قليلة جدا، ثُمامة بن أُثال مع بعض الناس، فهربوا من القبيلة.
ففي غضون شهور ارتدت كل بني حنيفة, ووفد بني حنيفة جاء ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، ثم نهار الرَّجال ذهب إليهم في وقت بعث أسامة بن زيد، أي قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بشهر، أو شهرين، فأرتد أربعون ألفا، ثم بعد ذلك وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها بشهر، أو بأقل من شهر ارتد الخمسون ألفا الباقية، فأصبح جيش مسيلمة الكذاب جيشا عظيما.
لذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجه لها جيشين، جيش على رأسه عكرمة بن أبي جهل، والآخر على رأسه شرحبيل بن حسنة، وقال لعكرمة بن أبي جهل:
إذا أتيت بني حنيفة، فلا تقاتلهم حتى يلحقك جيش شرحبيل بن حسنة؛ لأنه يعلم أن جيش مسيلمة كبير، لكن الحقيقة أن أبا بكر لم يكن يعلم أن جيش مسيلمة بن حبيب وصل لمائة ألف، وقوة الصحابة بالمدينة كانت ضعيفة، فالجيش الأول حوالى ثلاثة آلاف، والجيش الثاني كان نفس العدد، وكانت هذه كل قوة المسلمين المتجهة إلى قبيلة بني حنيفة، وفي هذا الوقت كان خالد يحارب في الشمال قبيلة أسد وبني تميم.
فتعجل عكرمة بن أبي جهل في قتال مسيلمة قبل أن يأتيه شرحبيل بن حسنة، وقد قال الرواة عبارة قصيرة تعليقا على هذه المعركة التي دارت بين عكرمة، ومسيلمة، قالوا: فكاد جيش مسيلمة أن يأكل جيش عكرمة بن أبي جهل.
مائة ألف أمام ثلاثة آلاف، فلو قاتل المائة ألف من غير أسلحة لهزموهم، فاجتاح جيش مسيلمة جيش عكرمة بن أبي جهل، ففر جيش عكرمة في البلاد، وتفرقوا في المنطقة من بني حنيفة حتى المدينة المنورة، ووصلت الأنباء إلى أبي بكر الصديق بالمدينة، فحزن حزنا شديدا، وعلم أن الجيش الإسلامي في طريقه إلى المدينة، فأرسل رسالة إلى عكرمة بن أبي جهل، ففي بداية الرسالة عَنَّفه بشدة على تسرعه في محاربة مسيلمة الكذاب، ثم قال له لا ترجع بجيشك إلى المدينة، واتجه بجيشك إلى حذيفة بن محصن، وعرفجه بن هرثمة في اليمن، فقاتِل معهما.
وهذا من حكمة أبي بكر، وبُعد نظرته الحربية، فقد خشي إن عاد هذا الصحابي بجيشه الفارّ إلى المدينة أن يفت ذلك في عضد المسلمين بالمدينة، ويصور لهم الجيش عظمة جيش مسيلمة، فيرعب المسلمين الموجودين في المدينة المنورة، ولا يستطيع أبو بكر الصديق بعد ذلك إرسال جيش آخر إلى مسيلمة الكذاب، فأرسل له ليبتعد عن المدينة، ويتوجه بجيشه إلى اليمن؛ ليقاتل مع حذيفة وعرفجة بن هرثمة.
وبرغم خطئه لم يُقله عن إمرة الجيش، بل ظل أميرًا على جيشه، أخطأ عكرمه بن أبي جهل، ولكن ليس حق هذا الخطأ القتل، أو الإبعاد؛ لأنه يرى في عكرمة حكمة، ومهارة حربية، لكنه اجتهد فاخطأ في هذا الأمر، وأرسل رساله إلى حذيفة بن محصن، وإلى عرفجة بن هرثمة يقول لهما:
يأتيكما عكرمة بن أبي جهل، فإن أتاكما فاسمعا منه، فإن له رأيا.
وجعل إمارة الجيوش إلى حذيفة بن محصن، وعمل أبو بكر على أن يقاتلوا متحدين حتى لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه عكرمة في بني حنيفة، فوجههم إلى عمان في منطقه (دبا) ليقاتلوا المرتدين في منطقة عمان وإذا تم النصر، يتجهوا إلى مهرة وعلى رأسهم عرفجه بن هرثمة وسنأتي في تفاصيل تلك المعركة. |