يا أبا بكر أَغْلق عليك بابك، وليسعك بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
كانت هذه هي الكلمات التي واجه بها الصحابة رضى الله عنهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أول استلامه الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصلت الأنباء بارتداد العرب عن دين الإسلام.
لقد كان موقفًا صعبًا طاشت فيه عقول، وذهلت فيه ألباب، وكانت فتنة حقيقية تركت الحليم حيران، واعتقد بعض الصحابة أن هذه هي نهاية الدنيا، وفكر البعض في اعتزال الناس، وأن يعبد، ويجتهد في العبادة إلى أن يأتيه اليقين، ومنهم من فكر في الخروج إلى الصحراء.
وفي هذا الموقف اختار الصحابة جميعًا رأيًا، واختار الصديق رأيًا آخر، لقد رأى الصحابة أن الجزيرة العربية قد ارتدت بكاملها تقريبًا، ورأوا كذلك أن المدينة المنورة العاصمة أصبحت خالية تقريبًا من الجنود، وذلك عندما كان جيش أسامة في الشام، ورأوا كذلك أن هناك بعض القبائل القريبة من شمال المدينة قد أعلنت ردتها، وهي في ذات الوقت علمت بخروج جيش المدينة إلى الشام، وهذه القبائل ليست بسيطة، ويأتي على رأسها قبائل أسد، وفزارة، وعبس، وذبيان، وكانت هذه القبائل قد أرسلت رسولًا مرتدًا هو عيينة بن حصن الفزاري، ومعه الأقرع بن حابس؛ ليفاوضا المسلمين في المدينة في أن يقبل أبو بكر منهم الصلاة، ويرفع عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدون أيديهم عن المدينة.
لقد كان الموقف خطيرًا فعلًا، وكانت المدينة مهددة.
في هذا الجو المشحون جاء الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنهم يعرضون عليه قبول طرح عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، بل إعطاءهما بعض المال، وذلك لتحييدها، وتخفيف ضغط الأزمة، قال الصحابة رضي الله عنهم:
نرى أن نطعم الأقرع، وعيينة طعمة يرضيان بها، ويكفيانك مَن وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة، وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل في كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب.
كان هذا رأي الصحابة، مساومة الأقرع وعيينة، وتأجيل القتال، لكن الصديق رضي الله عنه كان له رأي آخر، لقد قال لهم:
أما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشوا على الإسلام أحدًا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعوني عقالا، لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضيه، ثم جاءوا له، ولو رأوا ذباب السيف، لعادوا إلى ما خرجوا منه، أو أفناهم السيف، فإلى النار قتلناهم على حق منعوه، وكفر اتبعوه.
وعارض عمر بن الخطاب وكل الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في قتال المرتدين قائلين له:
علام تقاتل الناس؟!
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا.
وكان عمر يتكلم عن تلك الطائفة من المسلمين التي ارتدت عن دفع الزكاة فقط, ولم تترك الإسلام كلية، فهو يعارض أبا بكر في قتالهم؛ لأنهم لم ينكروا الألوهية، ولا الرسالة، أما من ارتد، وادعى النبوة، وقاتل المسلمين، وأنكر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متفق معه على أنهم مرتدون.
فقال الصديق رضي الله عنه:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.
ثم قال في قوة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم على منعه.
وهنا لنا وقفات مع اجتهاد الصديق رضي الله عنه:
أولًا: لقد قال:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
فهو قد وجد أن الزكاة دائمًا تقرن بالصلاة في كتاب الله، ومن ثَمَّ فلها حكمها، وقد ذكرت الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، قرنت فيها مع الصلاة في ثمان وعشرين مرة، والجميع يعلم أن من ترك الصلاة مستحلًا تركها، فهو كافر يستحق المقاتلة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح:
الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا كَفَرَ.
فإذا كانت تارك الصلاة كذلك، فكذلك الذي ترك الزكاة المقرونة بها مستحلًا لهذا الترك، فهو كافر أيضًا ويستحق المقاتلة.
ثم إنه رأى في الاستثناء الذي قاله صلى الله عليه وسلم:
إِلَّا بِحَقِّهَا.
تفسيرًا لم يفقهه كثير من الصحابة، فليس الإيمان شيئًا نظريًا بلا تطبيق في واقع الحياة، وليست كلمات تقال فارغة من المضمون، فلا إله إلا الله كلمة لها حقها، وهو كبير، وأعظم حقوقها الطاعة، والاتباع لله ورسوله، دون تردد أو تحريف، وقول لا إله إلا الله دون طاعة، وبدون أداء حقها، لا يعطي الإنسان وصف الإيمان الصحيح، وأهل مكة المشركون كانوا يؤمنون بأن الله خالق لكل شيء، ولكنهم رفضوا أوامره، فكفروا بذلك مع اقتناعهم بكونه خالقًا، وكذلك المال في الإسلام له حق، وحق المال الزكاة، ومن لم يؤده لم يفقه حقيقة معنى التكليف الإلهي، والذي يرده من الأصل، ويرفض هذا الحق منكرًا له، فهو لم يفقه لا إله إلا الله، ولا حقها، وبذلك يكفر، ومن كفر من بعد إيمانه وجب قتاله.
هكذا في بساطة استنبط الصديق رضي الله عنه وجوب قتال هؤلاء الذين استحلوا منع الزكاة.
ثم ختم استنباط وجوب القتال من منهجه الثابت ومرجعيته المضمونة، لقد رأى أن هؤلاء قد أعلنوا إعلانًا صريحًا أنهم سيخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يستمروا على عهده، وهذه بالنسبة للصديق رضي الله عنه قاصمة حقيقية.
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.
لقد قال الصديق في ثقة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.
فقضية مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية لا يتخيلها الصديق رضي الله عنه، ومن هنا استنبط حكمه الموفق.
ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، ناقشوه في المشكلة الثانية:
أين الجيوش التي ستحارب هؤلاء المرتدين؟!
ولكن أبا بكر يرد عليهم بكلمات خالدة، تُكتب بحروف من نور، قال:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
أي: حتى تقطع رقبتي، وهذه الكلمة تلخص حياة أبي بكر الصديق كلها أقاتلهم وحدي.
فكل القرارات التي اتخذها في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قرارات يبدأ فيها هو بالخير، دون أن يكون هناك خير على سطح الأرض كلها كالذي هو عليه، يبدأ بنفسه أولًا، فقد كان أول من أسلم من الرجال، ولم يكن هناك مسلمون، علم أن الحق في الإسلام فأسلم، ولما كان حادث الإسراء والمعراج قال له الناس:
إن محمد يقول إنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس.
فقال أبو بكر:
والله، لو قال ذلك لصدقته.
وصدق بحادث الإسراء والمعراج دون أن يسأله، وفي الهجرة كان الشخص الوحيد الذي خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل الأمور له وقفة بمفرده، حتى يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له وقفه مختلفة عن الصحابة، فبوقفته أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعله سببا في ثبات الصحابة، أمام وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنفذ بعث أسامة بن زيد مع معارضة الصحابة له، وهو الذي جهز الجيوش لمحاربة المرتدين، وكل الصحابة يعارضه، وهو يقول:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مقولة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يقول:
والله لقد حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحداث ما إن لم يَمُنّ الله على المؤمنين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه لخشيت ألا يعبد الله في الأرض بعد ذلك.
يقول إن الله سبحانه وتعالى جعل أبا بكر سببا لبقاء عبادته في الأرض بثباته ومحاربته للمرتدين، ولو لم يصر على ذلك لما عبد الله في الأرض بعدها.
ودخلت كلمات أبي بكر في قلوب الصحابة فلم تترك شكًا, ولا تحيرًا إلا أزالته.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فوالله، ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتل، فعرفت أنه الحق.
وعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على موقف الصديق هذا قائلًا:
والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة.
هنا، ومن هذا الموقف، يظهر لنا هنا عامل هام من عوامل الخروج من الأزمة، وهو العلم، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة، كما يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان أبو بكر أعلمنا.
وهذا العلم هو الذي أخرج المسلمين من الأزمة، وما أكثر ما ضل المخلصون لغياب العلم، فالإخلاص وحده لا يكفي، والنوايا الحسنة فقط لا تكفي، والتضحية الكاملة وحدها لا تكفي، إنما يجب أن يكون كل ذلك مصقولًا بل مسبوقًا بالعلم، ولعلنا هنا نفهم لماذا بدأ القرآن الكريم في النزول بآيات تحث على العلم.
وهكذا رأينا كيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم أن يؤثروا السلامة لأنهم لا طاقة لهم بهؤلاء المرتدين، وقتالهم فهم أضعاف المسلمين، حتى أن عمر أشار على أبي بكر بعدم قتالهم، فقال له أبو بكر:
أجبَّار في الجاهلية، خوَّار في الإسلام يا عمر؟!
فما هي إلا لحظات حتى شرح الله صدر عمر للذي شُرح له صدر أبي بكر، وعرف عمر أن أبا بكر على الحق. |