من مواقفه في الشجاعة أيضاً، وصبره على أذى قومه ما فعله في غزوة أحد، فقد كان يقاتل قتالاً عظيماً؛ فإن الدولة كانت أول النهار للمسلمين على المشركين، فانهزم أعداء اللَّه وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول اللَّه بحفظه، وذلك أنهم ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وتركوا الجبل فكرّ فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرُّماة فجازوا منه، وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم اللَّه من أكرم منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولى الصحابة، وخلص المشركون إلى رسول اللَّه فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيته اليمنى، وكانت السفلى، وهشموا البيضة على رأسه، وقاتل الصحابة دفاعاً عن رسول اللَّه ([1]).
وكان حول النبي رجلان من قريش، وسبعة من الأنصار، فقال لما رهقوه، وقربوا منه: ((من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة))، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً فقال: ((من يردهم عنا وله الجنة))، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول اللَّه لصاحبيه: ((ما أنصفنا أصحابنا))([2]).
وعندما اجتمع المسلمون، ونهضوا مع النبي إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بن الصّمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول اللَّه أُبَيُّ بن خلف، وهو على جواد لـه، ويقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا؟ فقال القوم: يا رسول اللَّه، أيعطف عليه رجل منا، فأمرهم رسول اللَّه بتركه، فلما دنا منه تناول رسول اللَّه الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً، فلما رجع عدو اللَّه إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير... قال: قتلني واللَّه محمد، فقالوا لـه: ذهب واللَّه فؤادك واللَّه إن بك من بأس، قال: إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك، فواللَّه لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو اللَّه بسرف، وهم قافلون إلى مكة([3]).
وعن سهل بن سعد t أنه سُئلَ عن جرح النبي × يوم أحد فقال: جُرحَ وجه النبي × وكُسرَت رباعيته، وهُشِمَت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة – عليها السلام – تغسل الدم، وعليٌّ يمسك، فلما رأت أن الدم لا يرتد إلا كثرة أخذت حصيراً فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألزقته فاستمسك الدم>([4]).
وقد حصل لـه هذا الأذى العظيم الذي ترتج لعظمته الجبال، هو نبي اللَّه ولم يدع على قومه، بل دعا لهم بالمغفرة، لأنهم لا يعلمون.
فعن عبد اللَّه بن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول اللَّه يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))([5]).
فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وعلى رأسهم محمد قد كانوا([6]) على جانب عظيم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جناياتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون([7])، قال : ((اشتد غضب اللَّه على قوم فعلوا هذا برسول اللَّه ))، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، ((اشتد غضب اللَّه على رجل يقتله رسول اللَّه في سبيل اللَّه ))([8]).
وفي إصابة النبي يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل اللَّه من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم، أو قضاء على حياتهم، فالنبي هو القدوة قد أوذي وصبر([9]).
([1]) انظر: زاد المعاد، 3/196، 199، والرحيق المختوم، ص255، 256.
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، 3/1415، (رقم 1789).
([3]) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3/199، والرحيق المختوم، ص263، وروى قصة قتل النبي × لأبي بن خلف: أبو الأسود عن عروة بن الزبير, والزهري عن سعيد بن المسيب. انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 4/32، وكلاهما مرسل، والطبري، 2/67، وانظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص226.
([4]) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب لبس البيضة، (رقم 2911)، ومسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة أحد، 3/1416، (رقم 1790).
([5]) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، 6/514، (رقم 3477)، 12/282، (رقم 6929)، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب عزوة أحد، 3/1417، (رقم 1792)، وانظر: شرحه في الفتح، 6/521، وشرح النووي لصحيح مسلم، 12/148.
([6]) انظر: شرح النووي لمسلم، 12/148.
([7]) شرح النووي على مسلم، 12/150 بتصرف.
([8]) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي × من جراح يوم أحد، 7/372 (رقم 4073)، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله، 3/1417، (رقم 1793).
([9]) السيرة النبوية دروس وعبر، ص116.
المقال السابق
المقال التالى