عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

باشر النبي  دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز، وغيرها، التي تحضرها القبائل العربية للتجارة والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر، ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى اللَّه – تعالى -، وجاء موسم الحج لهذه السنة فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة.

ولم يكتف رسول اللَّه  بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضاً.

وكان يرغب جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال لـه: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهلياً، قال: رأيت النبي في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا اللَّه تفلحوا))، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول اللَّه  وقالوا: هذا عمه أبو لهب([1]).

وقد كانت الأوس والخزرج يحجون كما تحج العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله  ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي في هذه السنة، ورجعوا إلى المدينة([2]).

وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي نفسه على القبائل، وبينما الرسول يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول اللَّه  ([3]).

ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج سنة 12 من النبوة، وكان من بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلاً، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول اللَّه  في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول اللَّه  عند العقبة بمنى، وأسلموا وبايعوا رسول اللَّه  بيعة النساء([4]).

عن عبادة بن الصامت t أن رسول اللَّه قال وحوله عصابة من أصحابه: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا باللَّه شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو لـه كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره اللَّه عليه فأمره إلى اللَّه: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) فبايعناه على ذلك([5]).

وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي مع هؤلاء مصعب بن عمير  ليعلم المسلمين شرائع الإسلام؛ وليقوم بنشر الإسلام، وقد قام بذلك أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكلهم قد أسلموا.

فلما قدموا مكة واعدوا النبي عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول اللَّه ، ثم قالوا: يا رسول اللَّه، على ما نبايعك؟ فقال: ((تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في اللَّه لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم ما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة))([6])،فقاموا إليه فبايعوه.

وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول اللَّه  اثني عشر زعيماً، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع اللَّه بهم في الدعوة إلى اللَّه تعالى([7]).

وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي × في تأسيس وطن للإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيراً، وثبت لقريش أن النبي  قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي  بالهجرة إلى المدينة، فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في يوم 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي ، فأوحى اللَّه إلى النبي  بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر علياً أن يبيت في فراشه تلك الليلة، فبقي المشركون ينظرون إلى عليّ من صِير الباب([8])، وخرج رسول اللَّه ، ومر بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة([9]).

وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول اللَّه دليل واضح على حكمة النبي ، وعلى صبره، وشجاعته، وأنه  حينما علم بأن قريشاً قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ فيه قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين: بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر جبناً، ولا فراراً من الموت؛ ولكن يعتبر أخذاً بالأسباب مع التوكل على اللَّه تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى اللَّه، فإن النبي  هو قدوتهم وإمامهم([10]).

 



([1])  أخرجه أحمد، 3/492، 4/341، وسنده حسن، وله شاهد عند ابن حبان، برقم 1683، (موارد) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، والحاكم في المستدرك بإسنادين، وقال عن الإسناد الأول: <صحيح على شرط الشيخين، رواته كلهم ثقات أثبات>، 1/15.

([2])  انظر: زاد المعاد، 3/43، 44، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/136، والرحيق المختوم، ص129، والبداية والنهاية، 3/149، وابن هشام، 2/31.

([3])  انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/137، وهذا الحبيب يا محبّ، 2/145، والرحيق المختوم، ص132، وزاد المعاد، 3/45، وسيرة ابن هشام، 2/38، والبداية والنهاية، 3/149.

([4])  انظر: زاد المعاد، 3/46، 44، والرحيق المختوم، ص139، والتاريخ الإسلامي، 2/139، وهذا الحبيب يا محبّ، ص145، وسيرة ابن هشام، 2/38.

([5])  البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي × في مكة 7/219 (رقم 3892)، وكتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان، 1/64 (رقم 18).

([6])  أحمد في المسند، 3/322، والبيهقي، 9/9، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/624، وحسن إسناده للحافظ في الفتح، 7/117.

([7])  انظر: سيرة ابن هشام، 2/49، والبداية والنهاية، 3/158، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/142، والرحيق المختوم، ص143.

([8])  صير الباب: هو شق الباب. انظر: المعجم الوسيط، مادة (صار), 1/531.

([9])  انظر: سيرة ابن هشام، 2/95، والبداية والنهاية، 3/175، وزاد المعاد، 3/54، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص61، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/148، وهذا الحبيب يا محبّ، ص156.

([10])  انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، ص68.




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق