أمثلة من التأديب بالهجر :
1- هجر عائشة لتأديب عبد الله ابن الزبير :
روى البخاري في صحيحه :
- أَنَّ عَائِشَةَ ، حُدِّثَتْ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ : فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ : وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَتْ : هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ ، أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا . فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا ، حِينَ طَالَتِ الهِجْرَةُ ، فَقَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا ، وَ لاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي . فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، كَلَّمَ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ ، وَ هُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ ، وَ قَالَ لَهُمَا : أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ ، فَإِنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي . فَأَقْبَلَ بِهِ المِسْوَرُ وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا ، حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ ، فَقَالاَ : السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ ؟ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : ادْخُلُوا ، قَالُوا : كُلُّنَا ؟ ، قَالَتْ : نَعَمِ ، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ ، وَ لاَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الحِجَابَ ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَ طَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَ يَبْكِي ، وَ طَفِقَ المِسْوَرُ وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلَّا مَا كَلَّمَتْهُ ، وَ قَبِلَتْ مِنْهُ ، وَ يَقُولاَنِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الهِجْرَةِ ، فَإِنَّهُ : « لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ » ؛ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَ التَّحْرِيجِ ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَ تَبْكِي وَ تَقُولُ : إِنِّي نَذَرْتُ ، وَ النَّذْرُ شَدِيدٌ ، فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ ، وَ أَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً ، وَ كَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا .
2- تأديب عمر لولده بالهجر :
ما رواه مسلم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: « لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا » ، قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ : فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ ، وَ قَالَ : " أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ تَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ " ؛ فحلف ابن عمر أن لا يكلمه و قد هجره .
3- تأديب عبد الله ابن مغفل لابن أخيه بالهجر :
ما أخرجه ابن ماجه في سننه عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل ، أنه كان جالسا إلى جنبه ابن أخ له فخذف فنهاه ، و قال : إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عنها ، فقال : إنها لا تصيد صيدًا و لا تنكي عدوًا و إنها تكسر السن وتفقأ العين ، قال : فعاد ابن أخيه فخذف ، فقال : أحدثك أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عنها ثم عدت تخذف لا أكلمك أبدًا .
*و الآن بعد أن رأينا كيف أن الهجر يستخدم للتقويم و التأديب ، فكيف نطبق الهجر إذا كان الهجر يأتي بنتيجة عكسية ماذا نصنع ؟
الهجر لا يكون إلا بعد النصيحة فإذا لم تأتي النصيحة بنتيجة نلجأ إلى الهجر .
- قد تكلمنا عن النصيحة في هذا الكتاب فليُرجع إليها - .
و المقصد من الهجر هو التأديب و ليس الإيذاء ، فنحن عندما نهجر إنسان إنما نلفت نظره أنه مخطئ و أن عليه أن يعيد تفكيره فيما يصنع .
و لا يجوز بأي حال من الأحوال هجر الأبوين ، و أن ننصحهم بحيث لا نتجاوز قوله تعالى : (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) الإسراء 23 .
و لا نهجرهم ، بل كما قال تعالى : ( وَ صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) لقمان 15.
و هجر الزوجة وسيلة من وسائل التأديب
قال تعالى : ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ) النساء 34.
قال ابن تيميه في الفتاوى هُوَ : أَنْ تَنْشِزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ .
و قوله تعالى : ( وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ) مع قوله صلى الله عليه و سلم : « و لا تهجر إلا في المضجع » دليل على وجوب المبيت ؛ فعلى الرجل الذي يهجر زوجته أن يبيت معها في نفس البيت و نفس الغرفة و نفس الفراش كما تعود ، لكنه لا يحاول أن يعاشرها أو يقترب منها ، و هذا يكون بعد الوعظ كما قلنا سابقًا .
و أيضًا هجر الأبناء إذا لم يستجيبوا للنصح ، و مثال ذلك : ألا يجدوا المودة من الأب ، و لا يجلس معهم و لا يأكل معهم .
و أيضًا هجر أصحاب البدع و المعاصي ، لكن إذا كان الهجر سيؤدى إلى ضرر بأن يعاند الشخص الذي ستهجر ، و يزداد إثمًا و معصية ، فهنا لا توجد مصلحة من وراء الهجر ، فتركه أفضل ، و عليك بالنصيحة مع التزام آداب النصيحة .
و إذا كان من ستهجره سيتسبب في إيذاءك ،مثل : أن يكون لك جار سوء أو صاحب عمل مؤذي ، و هو مكب على المعاصي و المنكرات ، و أنت إذا هجرته قد يتربص بك و يكيد لك المكائد ، فهنا عليك بالمدارة و هو أمر مشروع لدفع الضرر .
أخرج البخاري عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ : « بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ ، وَ بِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ » ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَ انْبَسَطَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَ كَذَا ، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَ انْبَسَطْتَ إِلَيْهِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : « يَا عَائِشَةُ ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ ».
انظر أخي المسلم إلى هدى النبي ، و كيف أنَّه ألان الحديث للرجل لما في ذلك من مصلحة تخص الدين .
و يروى أنَّ هذا الرجل كان عيينة ابن حصن ، و كان من وراءه قومه و هو مسموع الكلمة عندهم فخشي النبي أن يغضبه فيرتد هو و قومه .
و المداراة هي بذل الدنيا من أجل الدين أو الدنيا ، النبي هنا بذل له حسن العشرة لكنه لم يمدحه ، لأن مدح أهل السوء مداهنة ، و المداهنة لا تجوز شرعًا ، و هي بذل الدين من أجل الدنيا .
اللهم أرنا الحق حقًا و ارزقنا إتباعه و أرنا الباطل باطلًا و ارزقنا اجتنابه .