إسلام عُرْوَة بْن مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ
رجل من القريتين عظيم :
هذا الرجل، كان من وجهاء العرب، وكان هو المعني بقول المشركين – كما حكى القرآن - : "{ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }الزخرف31 ، فالأول هو الوليد بن المغيرة عظيم مكة، والثاني هو ذا، عروة بن مسعود عظيم الطائف. وكأن الله أراد أن يهدي إلي الإسلام أحب العظيمين إليه سبحانه، كما أدخلَ الله في الإسلام أحب العمرين إليه، فكان أحب العظيمين إليه عروة، وكان أحب العمرين إليه عمر بن الخطاب.
وكأن يد الله ترسمُ الحكمةَ في شخص..
ذلك الشخص الذي أرادوه نبيًا، وقالوا إنه أحق بالنبوة من محمد – صلى الله عليه وسلم -، هاهو ذلك العظيم " عروة " ينضم إلى الجماعة المسلمة، ليكون رجلاً من رجالات الدعوة .
إن عروة هذا، هو هذا الذي أرسلته قريشٌ يومَ الحديبية [ في العام السادس] لتوبيخ النبي – صلى الله عليه وسلم – ومحاولة إدخال الرعب في نفوس المسلمين، فقدم يكلم النبي – صلى الله عليه وسلم –، وعاد إلى قريش يقول يومها:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ جِئْت كِسْرَى فِي مُلْكِهِ ، وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ . وَالنّجَاشِيّ فِي مُلْكِهِ . وَإِنّي وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا فِي قَوْمٍ قَطّ مِثْلَ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ "[1].
لقد هزته هزًا عنيفًا؛ تلك الروح الإيمانية – الممتزجة بالتوقير- التي تراءت له في هذا المشهد العجيب، حين جعل يرمق أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بعينيه، وقد أُذن للصلاة، وأراد رسول الله الوضوء، " فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخَامَةً، إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُم؛ْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا[2] .
إلى ركب الدعوة
ومرت الأيام ..
ولا زال يحمل عروةُ هذا الموقف الخلاب في سويداء قلبه.
حتى إذا فتح الله مكةَ على نبيه، وأراد غزوة الطائف – المعقل الأخير للوثنية -، فحاصرها، وقد كان عروة في هذه الأثناء منتدبًا إلى اليمن، ليتعلم صناعة الدبابات والمنجانيق، ثم رجع عروة إلى الطائف وقد رجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنها، فأنشأ عروة في عمل الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَ وَالْعَرّادَاتِ لقومه، حتى قذف الله في قلبه الإسلام، فقدم المدينة فور قدوم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من الطائف؛ فشهد عروة شهادة الحق في حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ولـمْ يسأل عروةُ إمارة أو وزارة أو زعامة، وهو سيد من سادات العرب- ، وله الأيداي البيضاء على كثير من العرب – لا سيما في الدماء والديات-.
ولـمْ نسمع أنه سَمَّع بمكانته، أو دخل الإسلام سُمعةً، ولم يُؤثر عنه حُب الشهرة، أوالكبر أوالزهو .. لقد كان خفيض القلب متواضعًا، سريع الانبتات إلى الله !
ولـم يسأل عروةُ صاحبَ الدعوة شرفًا، إنما سأل شرف الجندية، عضوًا عاملاً في الكتيبة المحمدية، ولم يشترط أن يكون رأسًا في الإسلام بحجة أنه رأس في غيره، وهؤلاء الصادقون نراهم في كل زمان .. ألم تسمع يومًا أن أديبًا كان ملىء السمع والبصر في وسائل الإعلام، قد هداه الله إلى طريق الدعوة، فسخر قلمه ومداده وقراطيسه لخدمة الإسلام، وقد عَلِمَ قَبلُ، أن المجد الإعلامي الزائف سيرحل عنه إذا رحلَ هو إلى كتيبة الدعوة، فركل وسائل التزييف، وكان جنديًا مخلصًا لدعوة الله، ثم مضى شهيدًا إلى ربه ؟!
ولم يطلب عروةُ شرفًا، سوى شرف الدعوة إلى الله، فقال في نفس اليوم الذي أسلم فيه:
" يَا رَسُولَ اللّهِ، اِيذَنْ لِي؛ فَآتِيَ قَوْمِي، فَأَدْعُوَهُمْ إلَى الإسْلَامِ، فَوَاَللّهِ، مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الدّينِ ذَهَبَ عَنْهُ ذَاهِبٌ . فَأَقْدَمُ عَلَى أَصْحَابِي وَقَوْمِي بِخَيْرِ قَادِمٍ، وَمَا قَدِمَ وَافِدٌ قَطّ عَلَى قَوْمِهِ إلا مَنْ قَدِمَ بِمِثْلِ مَا قَدِمْت بِهِ، وَقَدْ سَبَقْت يَا رَسُولَ اللّهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ "[3].
فهي شعلة الإيمان التي تتقد في قلب المؤمن، فلا تزال تنفث شذاها، لا تنطفىء أبدًا، ولا يهدىء له بال حتى يُبَلّغَ رسالةَ ربه إلى الخلائق.
ويريد عروة أن يسرع إلى قومه، وكأنه يركض إليهم لإنقاذهم من الطوفان. وهكذا المسلم لا تلقاه إلا داعيًا، ولا تفارقه إلا داعيًا، ولا تسمع عنه إلا داعيًا، يحمل بين جنبات نفسه شعور الاهتمام بالدعوة وإحساس الإنقاذ، يحمل في وجدانه همة عالية، أو همة سبّحاح أوضفدع بشري يغوص في لجج البحر لإنقاذ الغرقى.
وفي ثنايا هذا الفوران الإيماني في قلب عروة .. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
" إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك " !!!
قَالَ : " يَا رَسُولَ اللّهِ، لأنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَولادِهِمْ . "
فقد بلغتْ مكانته فيهم مبلغًا يضرب به المثل . وهكذا يصطفي الله لدعوته أكارم الناس في أقوامهم، وخيارهم؛ خيارهم لقومه وأهله، وأنفعهم لهم .
ثُمّ اسْتَأْذَنَهُ الثّانِيَةَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الكلام الأول .
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكررًا - : " إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك " !!!
فقال عروة – في إصرار على المضي قدمًا والصبر على ما يلقاه في سبيل الله - : " يَا رَسُولَ اللّهِ، لَوْ وَجَدُونِي نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي ." .
يريد أنهم يهابونه، ويهابون حتى إيقاظه من نومه . فمع خيريته فيهم، إلا أن ليس بالشخص الذي يُستهان به، فمع صلاحه فيهم تجده شخصًا وقورًا مُهبًا.
وَاسْتَأْذَنَهُ الثّالِثَةَ.. فقد عزمة عزمة تخر لها الرواسي، وتزول لها القور والأكم.
فَقَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
" إنْ شِئْت فَاخْرُجْ " [4].
إلى ركب الإصلاح :
وكأنما تنفس الصعداء، وقد أحْزمَ الرجلُ إذ عزم، فخرج سراعًا إلى الطائف، سير الحبيب إلى حبيبه، وقطعها في خمس، وقِدمَ على أهله عشاء، ودخل منزله، ولم يأت صنم اللات كعادة الجاهليين، فلم يصلِّ لها ولم يطف بها، ولم يَحلق لها، وقد كانوا يسمونها " الرَّبة " – فهي أنثى – وليست رب – فباتت عباداتهم لذات فرج ونهد ! -، وقد كان من عادة المسافر فيهم ألا يدخل بيته حتى يطوف بهذه الركسة.
والتمسوا العذر لسيادهم لمشقة السفر، أو لـحَرٍ أو قَرٍ، وقالوا : "السّفَرُ قَدْ حَصَرَهُ " .
وجاءوا بيته، فَحَيّوْهُ تحيةَ الشركِ، فأنكر عليهم تحية الشرك، وقال : "عَلَيْكُمْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ" . السلام . ثم دعاهم إلى الإسلام . فغضبوا، وشتموه. وبات بيتُه في جَلَبة . وقال – يريد إقناعم - : " يَا قَوْمِ أَتَتّهِمُونَنِي ؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّي أَوْسَطُكُمْ نَسَبًا ، وَأَكْثَرُكُمْ مالاً ، وَأَعَزّكُمْ نَفَرًا ؟ فَمَا حَمَلَنِي عَلَى الإسلام إلا أَنّي رَأَيْت أَمْرًا لا يَذْهَبُ عَنْهُ ذَاهِبٌ فَاقْبَلُوا نُصْحِي ، ولا تَسْتَعْصُونِي . فَوَاَللّهِ مَا قَدِمَ وَافِدٌ عَلَى قَوْمٍ بِأَفْضَلَ مِمّا قَدِمْت بِهِ عَلَيْكُمْ "[5]. فقد جاءهم بمنهج الله الذي فيه نجاتهم، وبشرعة الإسلام التي فيها الحل كل الحل والعلاج كل العلاج لمشكلاتهم .
فازدادوا تجرئًا عليه، وقد اضمروا له الشر، وقالوا :
"قَدْ وَاللاتِ، وَقَعَ فِي أَنْفُسِنَا حَيْثُ لَمْ تَقْرَبْ الرّبّةَ . وَلَمْ تَحْلِقْ رَأْسَك عِنْدَهَا، أَنّك قَدْ صَبَوْت "[6].
وخرجوا من عنده، يَأْتَمِرُونَ، كيف يصنعون به، حتى إذا طلع الفجر؛ أَوْفَى عَلَى غُرْفَةٍ لَهُ، فأذن للصلاة، فرماه رجلٌ، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَلَمْ يَرْقَأْ دَمُهُ، حتى إذا أشرف على الموت َحُشِدَ عشيرته وقد أرادوا الثأثر، وجمع عشيرة القاتل، وآخرون من قومه وقال للجميع :
"لا تَقْتَتِلُوا فِيّ ! فَإِنّي قَدْ تَصَدّقْت بِدَمِي عَلَى صَاحِبِه، لِيُصْلِحَ بِذَلِكَ بَيْنَكُمْ ! فَهِيَ كَرَامَةُ اللّهِ أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا ! الشّهَادَةُ ! سَاقَهَا اللّهُ إلَيّ، أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ، خَبّرَنِي عَنْكُمْ هَذّا أَنّكُمْ تَقْتُلُونَنِي ... ادْفِنُونِي مَعَ الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ ." . ففعلوا. وبلغ الخبرُ المدينةَ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : "مَثَلُ عُرْوَةَ مَثَلُ صَاحِبِ يَاسِينَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَقَتَلُوه"[7].
إلى ركب الشهداء :
وصاحب ياسين هذا، هو الرجل الصالح الذي قص الله قصته في سورة ياسين، قال تعالى :
" وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ{20} اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ{21} وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{22} أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ{23} إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{24} إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ{25} قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27} ".
واستجاب الله تعالى لرغبة عروة، في قولته :"لا تَقْتَتِلُوا فِيّ؛ فَإِنّي قَدْ تَصَدّقْت بِدَمِي عَلَى صَاحِبِه، لِيُصْلِحَ بِذَلِكَ بَيْنَكُمْ "، فأصلح الله قومه، ودب النور في قلوبهم، تبين لهم صدق سيدهم، الذي تصدق بدمه عليهم، فكأنما كانت دماؤه زيتًا يضيء لهم شموع الإيمان ..وجاء وفدُهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان المبارك في العام التاسع - فور عودة الجيش الإسلامي من تبوك – ، وأسلم وفد ثقيف، فكانوا ثمرة جهد عروة، وفي كفة حسناته يوم القيامة إن شاء الله .
لقد أشبه عروةُ المسيحَ خِلقة وخُلقًا، أما في الهيئة، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مُحدثًا عن رحلة الإسراء والمعراج - :
" عُرِضَ عَلَيَّ الأنبياء، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنْ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ "[8] .
وأما أخلاق عروة، فأنعم بها من خلال، وحدّث بها طلاب الدعوة، كيف ترك هذه الرجل - الحسيب الشريف الشهير – نحلته، فجعلَ مُنَته في سبيل الله، وضحَّى بصحبة الرسول – صلى الله عليه وسلم –التي لا تُقدر ثمن، فذهب إلى قومه مبشرًا ونذيرًا، وصبر على جهل المجتمع صبرًا حتى الموت، حتى كان شبيه صاحب ياسين، فهو صاحبه في السيرة والمسيرة والخاتمة والجائزة، فعسى أن يكون هتاف عروة في قبره كهتاف صاحبه : "يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ".
إصلاح وشهادة:
وفي قوله : "لا تَقْتَتِلُوا فِيّ ! فَإِنّي قَدْ تَصَدّقْت بِدَمِي عَلَى صَاحِبِه، لِيُصْلِحَ بِذَلِكَ بَيْنَكُمْ ! "
دلالة على تجرد المسلم لغايته، وصدقه المحض في إصلاح عشيرته، حتى إنه تصدق بدمه على القاتل، ليحقن عروةُ الدماء، وليكون هذا الصنيع منه فاتحة خير وصلاح لقومه، فلإن غاب جسمه فقد بقيت أخلاقه، وانتفض " إصلاحه " حيًا بين الناس، بعدما برَاهم الجهل وأعياهم الظلم، إن قضية الإصلاح كانت تجري في عروق عروة، فهو الذي تحمّل دية قتلى المغيرة من شعبة، وهو الذي توسط بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية ونقل لهم مشهد توقير الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي وفد على الملوك والزعماء شرقًا وغربًا، والكل يشهد بعلو كعبه في الإصلاح، وعلوّ قدره عند الزعماء، وقد جاب الفلوات بين قادة العالم يطلب الخير والمجد لقومه، وفوق ذلك عُرف بكفه الواسع، وبيته الجامع، وعطاءه الماتع. ومن عاش على شيء مات عليه، وخيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وكانت خصلة الإصلاح خصلة من خصال عروة في جاهليته وفي إسلامه، حتى كانت آخر كلماته، تدعو قومه أن يجتمعوا على ما فيه صلاحهم. إنه إصلاح الدنيا بالدين، إنه الإصلاح حتى الرمق الأخير !
لقد مات الرجل وهو يصلح بين الناس، فنعم الخاتمة، ونعم الشهادة إذًا؛ إذ قال عنها فرحًا بها، مغتبطًا بكارمتها، مسرورًا بفضلها :
"فَهِيَ كَرَامَةُ اللّهِ، أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا ! الشّهَادَةُ ! سَاقَهَا اللّهُ إلَيّ".
إصلاح لله، وشهادة في سبيل الله، هكذا كانت خاتمة سيد العرب، وأحب زعماء العرب إلى الله .
بخٍ، بخٍ، كرامة الله لعباده المصلحين هي حسن الخاتمة، والشهادة خير جائزة، تلك التي يسوقها الله سَوق الإبل الوخادة إلى معاطنها- ومعاطن الشهادة في مُهَجِ المصلحين الصادقين .
ويسوقُ سيد الطائف لقومه؛ آيةً على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قائلاً :
"أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ، خَبّرَنِي عَنْكُمْ هَذّا، أَنّكُمْ تَقْتُلُونَنِي ...".
أخبره بأنهم قاتلوه لجلافتهم ولنخوتهم في الباطل، ولإسلامه، وكفره برَّبةِ الجهل والعار .
و لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أدرى بقوم عروة من عروة ، وهكذا القائد الإسلامي، أدرى الناس بالناس . فلقد كانت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – خبرةٌ، وتجربة مُرة مع أهل الطائف، عندما جاءهم في عام الحزن داعيًا، فشتموه وضربوه وطاردوه، وأغروا به السفهاء والزعانف، حتى ألجئوه إلى بستان خارج الطائف، يحتمي به.
يا سيد الطائف !
كانت وصيتك الأخيرة - وأنت أحد الأحدين –أن يُوارى جثمانُك مع أشلاء السابقين، في رياض الشهداء؛ فقلتَ – تطلب السؤدد - :
" ادْفِنُونِي مَعَ الشّهَدَاءِ، الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ ." .
وهكذا المؤمن، الموت في سبيل الله أسنى مراميه، ومَدفنٌ مع الشهداء خير نواديه .
توصية عملية :
امض في طريق إصلاح المجتمع، ولا تتلبث، شارك وساهم في كل فعالية من شأنها أسلمة المجتمع، ومجالات العمل مع المجتمع مفتوحة، في المساجد، والمدارس، والجامعات، ومقار العمل، والشوارع، والنوداي، والمتنزهات، والمقاهي، والصالونات الأدبية، ومجالس الصلح والتحكيم، وليكن لك مشاركة في كل هذه الأبواب. ومن سَرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وما الحزمُ إلا أن تَهمَّ فتفعلا !
-------------------
[1]ابن هشام 2 / 312
[2]البخاري : 2529
[3]انظر: الواقدي 3/960-961
[4]انظر: الواقدي 3/960-961
[5]انظر: الواقدي 3/960-961
[6]الواقدي 3/960
[7]الواقدي 3/960
[8] مسلم :244