أُبَيِّ بن خَلَف وعُقْبة بنِ أَبي مُعَيْطٍ
كان أُبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، صديقين متصافيين، وكانا من ألد أعداء النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانا أكثر الناس إيذاءًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وفي يوم، أراد عقبة بن أبي معيط أن يجلس إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين الصحابة، ليسمع منه وينظر، فقد كان مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مجلس أدب وأخلاق، وعزب حديث، وجمال بيان، وعبر وعبرات..
ولا زال عقبة يجلس في مجالس النفحات النبوية، حتى أوشك على الدخول في الإسلام، وظن الناس أن بشاشة الإيمان في طريقها إلى قلب "عقبة"؛ فتكسب الدعوة قائدًا من قادات مكة .
وترامت الأخبار إلى مسامع صديق العُمر" أُبي "، فأتى " عقبة " فقال له في حسم وحزم :
"ألم يبلغني أنك جالست محمدًا وسمعتَ منه ! ؟ وجهي من وجهك حرام أن أكلمك (واستغلظ من اليمين ) إن أنت جلستَ إليه أو سمعتَ منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه"[1]..
فغرق " عقبة " لحظات سريعة في صراع نفسي، بين طريق محمد – صلى الله عليه وسلم – وطريق أُبي بن خلف ..
وكان لزامًا عليه الاختيار، إما الإسلام ويخسر الصديق، وإما الصديق ويخسر الإسلام، ولكن شيطان عقبة قد أرداه خسيرًا خسيئًا، فذهب إلى مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بوجه حديد وبقلب عتيد، وخُلق عنود، ونفس خائبة مهزومة أمام سطان الصداقة النكدة، فبزق عدوُ اللهِ في أكرم وجه سجد لله، وأطهر وجه طلعت عليه الشمس، وزاد الفاجر في جُرمه، فسب رسول الله سبًا شنيعًا، في مجلس الطهر والإيمان بين ظهراني المؤمنين المستضعفين ..
وأمعن في بغيه، ليسمعَ السامع، ولشهد الغائب، ولتتحدث مكة عن تلك التَفلة التي طاب بها قلب " أبي بن خلف " – عليه وعلى صديقه لعائن الله ! ـ.
الرد القرآني
ولما جُرحت مشاعر النبي الكريم؛ إثر هذا الموقف المخجل، والإهانة الوقحة، من رجل يعده بعض الناس من جلساء محمد، أراد الله – جل في علاه – أن يطيب بوجدان الرسول المكسورِ، وأن يمسح على جراحات نفسه بيد حانية، مع كلمات مواسية، فيجلو القلب المكلوم، فتزول آثار الألفاظ النابية والأفعال الجارحة :
فنزل قول الله ـ عز وجل ـ :
" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً{27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً{28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً{29}" [ الفرقان ][2].
" مشهد الظالم يعض على يديه من الندم والأسف والأسى ... ويصمت كل شيء من حوله ؛ ويروح يمد في صوته المتحسر ، ونبراته الأسيفة؛ والإيقاع الممدود يزيد الموقف طولاً ويزيد أثره عمقاً . حتى ليكاد القارىء للآيات والسامع يشاركان في الندم والأسف والأسى ...ولاتكفيه يد واحدة يعض عليها . إنما هو يداول بين هذه وتلك ، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين . وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيماً"[3].
إذ يوم القيامة يكون الندم المرير على صحبة صالحة تركها المرء إلى صحبة طالحة، وماذا تراه يقول عن صحبة الصلاح والخير التي كانت فيها النجاة، لقد قال ما قصه الله :
"يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً " [ الفرقان : 27]
" وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين" [ الأنعام : 27 ]، في صحبة المؤمنين، وخلة الصالحين، ولكن هيهات هيهات !
عقاب الدنيا وعقاب الآخرة
كان عقاب الآخرة لأصحاب السوء كما رأيت في آيات الله التي نزلت، تصف حالهم يوم القيامة، ذلك اليوم الرعيب الذي يتحول فيه البشر إلى خصوم وأعداء بعضهم لبعض؛ إلا أصدقاء الخير، وجماعة البر : "الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " [الزخرف67] .
أما عقاب الدنيا، فلا يخفى على عاقل بصير .. فأنت ترى من حال أصدقاء السوء أعاجيب القصص وأغاريب الحكى في مواقف النذالة، والخسة، والجبن، والخيانة، والغيبة، والنميمة، والسرقة، وفساد المال والصحة، والبغي، والعدوان، والبغض، والتحاقد، والتخاذل.. وحسبك من هذه الدواهي عقاب !
كم سمعنا عن صحبة فاسدة تمخض عنها خيانة الصديق لصديقه في أهل بيته من زنى وهتك عرض !
وكم سمعنا عن صحبة طالحة نجم عنها سرقة الصاحب لصاحبه !
وكما سمعنا عن صحبة نكدة ترتب عليه خذلان الخليل لخليله وقت الشدة !
وصدق الشاعر :
جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي
وصدق آخر :
إن الصديق الحق من يقف معك *** ويضر نفسه لينفعك !
وإذا ريب الزمان صدعك *** فرق فيك شمله ليجمعك !
وقال أبو العتاهية :
وحدةُ الإنسان خير *** من جليس السوء عندَه
وجليس الخير خير *** من جلوس المرء وحده
واعلم أخي، أن صداقة السوء، نهايتها سوء، وخير ما نمثل به نهاية عقبة بن أبي معيط يوم بدر، حيث أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقتله من دون الأسرى مع النضر بن الحارث، وذلك لشدة عداوتهما للإسلام، وما فعلاه بالمسلمين والمسلمات أيام الاستضعاف في مكة .. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عقبة لما قُدم للقتل نادى: يا معشر قريش مالي أُقتل من بينكم صبرًا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: بكفرك وافترائك على رسول الله » .. وفي لفظ «ببزاقك في وجهي»[4] .
آلآن وقد عرفتَ يا عقبة - يا صاحب الجليس السوء - أن البزقة التي بزقتها في وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كانت عليك لعنة .. دارت لعنةُ تلك التفلة مع دوران الزمان وفق نواميسه التي لا تنخرق، حتى قابلتك في كبدك يوم بدر طعينًا، فقتلتك صبرًا بين يدي رسول الله، فأنت الأذل وهو الأعز !
إنها نهاية صحبة السوء وجلسات السوء .. هكذا كان كيرها الخبيث وحرها الشديد، وترتها النحس، هكذا كانت تلاحق أصحابها حتى أردتهم في سوء الخاتمة خائبين نادمين ."إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً "[5] .
أقبلْ إلى الصحبة الصالحة !
وكأن النجاة من عذاب الآخرة، في جماعة من الأخيار نلحق بهم !
هكذا كان يُعَبرْ مشهد النادم العاضد على يديه ندمًا ! فكان ألمه وبكاؤه لعلة واحدة هي ترك صحبة الصلاح إلى صحبة الفساد ..
وإذا كان الأمر كذلك فأقبلْ ـ يا أخي ـ إلى جماعة الخير – ولا يقيدك الشيطان بقيد التسويف .
أقبل ! فصلاح الصحبة من صلاح الدين، وقد قال رسول الله – صلى عليه وسلم – "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"[6] .
واعلم أن نفسك إذا أقبلت على الصالحين منشرحه، فنفسك خيِّرة، طيبة، وإذا كانت غير ذلك .. فشفاك الله وعافاك، وأعيذك بالواحد من شر صديق فاسد، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"[7] . أو كما قال سفيان بن عيينه : " لكل امرىء شَكْلٌ يَقَرُّ بِعَيْنِهِ وَقُرَّةُ عين الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الفسلا " ، أي الرُّذَّلُ من الناس .
أقبل ! واصبر نفسك مع جماعة الخير، فقد أمرنا الله بذلك، وقد نهانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مصاحبة غيرهم فقال:
"لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ "[8] .
ومصاحبة جماعة الخير، مجلبة لمحبة الخالق سبحانه وتعالى ، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال :" يَأْثُرُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ "[9] .
ومجالسهم مجالس تشهدها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، وفوق ذلك يذكر الله أصحاب مجالس الخير فيمن عنده، ومَن ذكره الله لا يعذبه أبدًا ، وهذه بشارة رسول الله لأهل مجالس الذكر إلى يوم القيامة :
"مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ؛ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَتَغَشَّتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"[10] .
وهم في ظل الله يوم القيامة، يوم الحر الشديد، واللهب اللهيب، يوم لا ظل إلا ظل الرحمن، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن نبي الله قال: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... " وكان الصنف الرابع منهم : " وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ".. وهم أكثر الأصناف إن شاء الله، في ظل الله، وذلك لأن الإخوة في الله والحب في الله والصداقة الصالحة، هي أيسر الخصال السبع التي وردت في الحديث .
توصيات عملية :
1- خذ قرارك الآن .. " لن أصاحب إلا مؤمنًا " .. وعض على نفسك في الدنيا بترك صحبةِ السوء، قبل أن تعض على يديك يوم لا ينفع الندم ..
2- عليك بصحبة جماعة المسجد، وتعرف على رواده، فهم خير صاحب في هذه الأيام.
3-كن خير جليس لجليسك، وخير صديق لصديقك، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
" خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ"[11].
--------------------
[1] ابن هشام 1/361
[2] انظر تفاصيل القصة في السيرة الحلبية 2/374
[3] سيد قطب : في ظلال القرآن، سورة الفرقان، الآيات 27-29
[4] الحلبية 2/374
[5] أخرجه مسلم (4762)
[6] أخرجه أبو داود(4833)، وحسنه الألباني
[7] أخرجه مسلم(4773)
[8] أخرجه أبو داود ( 4192) وحسنه الألباني
[9] أخرجه أحمد ( 21114) وصححه الألباني، حديث رقم : 4331 في صحيح الجامع
[10] أخرجه ابن ماجه (3781 )، عن أبي هريرة، وهو في السلسلة الصحيحة : 75
[11] أخرجه الترمذي ( 1867)، وهو في السلسلة الصحيحة :103