عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

 

ثانياً : حديث القرآن عن شرح صدره صلى الله عليه وسلم :

قال الله تعالى : "  أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)"  ( الشرح ) .

احتوت هذه السورة الكريمة على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بلطف الله له و إزالة الغم و الحرج عنه ، و تفسير ما عسر عليه ، و تشريف قدره لينفس عنه ، فمضمونها شبيه بإنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به ، و إنارة سبيل الحق و ترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتداه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله ، و كان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم و اتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسراً كدأب الله تعالى في معاملته فلتحمل متاعب الرسالة و يرغب إلى الله عونه . (45)

 

 

قوله تعالى : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ" الشرح : الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك ، و الله تعالى فتح صدر نبيه للهدى و المعرفة بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق ، و معنى هذا الاستفهام : التقرير ، أي : قد فعلنا ذلك ؟ (46)

 

 

قال ابن كثير : يقول الله  تعالى : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " يعني : إنا شرحنا لك صدرك ، أى نورناه و جعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً ، كقوله : "  فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ  " ( الأنعام : 125 )  و كما شرح الله صدره ، كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق . (48)

 

و معلوم أن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره كما في هذه الاية " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " فصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك ، و إنما خص الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم و الإدراكات ، و المراد الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم ، بفتح صدره و توسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة ، و قدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة و حفظ الوحي  . (49)

 

 

 

و مثل هذا قول الله تعالى : " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ " ( الزمر: 22 ) و المعنى : أي وسعه لقبول الحق و فتحه للإهتداء إلى سبيل الخير ، قال السدي : وسع صدره للإسلام للفرح به و الطمأنينة إليه ، قوله : " فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ  "(الزمر :22) و المعنى : أفمن وسع الله صدره للإسلام فقبله و اهتدى بهديه (فَهُوَ) بسبب ذلك الشرح  (عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ )  يفيض عليه كمن قسى قلبه لسوء اختياره ، فصار في ظلمات الضلالة و بليات الجهالة ؟

 

 

قال قتادة : النور كتاب الله به يؤخذ و إليه ينتهى . قال الزجاج : تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره كمن طبع علي قلبه فلم يهتد لقسوته . (51)

 

 

و الصدر المراد به الاحساس الباطني الجامع لمعنى العقل و الإدراك .

 

و شرح صدره صلى الله عليه وسلم كناية عن الإنعام بكل ما تطمح إليه النفس الزكية من الكمالات و إعلامه برضى الله عنه و بشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر .

هذا تفسير الآية بما يفيده نظامها و إستقلالها عن المرويات الخارجية ، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإسلام ، و عن الحسن قال : شرح صدره أي مُلئ علماً و حكماً ، و قال سهل بن عبد الله التستري : شرح صدره بنور الرسالة .

و على هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ، و نسبة ابن عطية إلى الجمهور . (52)

 

 

و يجوز أن يجعل الشرح شرحاً بدنيا ، وروى عن ابن عباس أنه فسره به ، و هو  ظاهر الآية  إشارة إلى مرويات شق صدره صلى الله عليه وسلم  شقاً حسيا ً ، و هو المروى بعض خبره في الصحيحين . و المروى مطولا في السيرة و المسانيد (53) .فوقع بعض الروايات في الصحيحين أنه كان رؤيا في النوم ، و رؤيا الأنبياء و حي ، و في بعضها : أنه كان يقظة ، و هو ظاهر ما في البخاري ، و في صحيح مسلم أنه كان يقظة و بمرأى من غلمان أترابه ، فقد كان ذلك أثناء و جوده في مضارب بنى سعد من إرهاصات النبوة و دلائل اختيار الله إياه لأمر جليل ، و قد رويت هذه الحادثة بطرق صحيحة و عن كثير من الصحابة (54) منهم أنس بن مالك فيما يرويه مسلم في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرجه ، فاستخرج منه علقه فقال هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم أعاده إلى مكانه ، و جاء الغلمان يسعون إلى امه – مرضعته – ينادون أن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه و هو ممتقع اللون . (55) و جاء في صحيح مسلم ايضاً عن أنس بن مالك قال : رأيت أثر الشق ، في جلد صدر النبي صلى الله عليه وسلم  وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين النائم و اليقظان ، و الروايات مختلفة في زمانه و مكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة . (56)

 

 

 

و اختلاف الروايات حمل بعض أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع مرات ، منها حين كان عند حليمة كما جاء في صحيح مسلم (57) و في حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان و عُمْر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين  (58)  و الذي في الصحيح عن أبي ذر : أنه كان عند المعراج به إلى السماء ، و لعل  بعضها كان رؤيا ، و بعضها حساً .

 

 

 

قال ابن دحية في معراجه و ابن المنير و غيرهما : (59) الصحيح أن شق الصدر مرتان ، قال شيخ الإسلام ابن حجر : بل ثلاث مرات ، ووقع له صلى الله عليه وسلم ذلك  أي شق الصدر ثلاث مرات : الأولى و هو صغير في بنى سعد عند مرضعته حليمة رضي الله عنها

الثانية : عند البعثة

الثالثة :ليلة الإسراء .(60)

و ليس في شئ من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية ، و إذ قد كان ذاك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مراداً وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في الأحكام (61) و عليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته و هو الباطن الحاوي للقلب .

 

 

و من العلماء فسر الصدر بالقلب . حكاه القاضي عياض في الشفاء (62) . يشير إلى ما جاء في خبر شق الصدر من إخراج قلبه و إزالة مقر السوسة منه .

 

 

و كلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم إما مباشرة و إما باعتبار مغزاه كما لا يخفى .

 

و تكرار حادثة شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات له حِكَم ، فالأول كان في زمن طفولته صلى الله عليه وسلم لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ، ثم عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير ، ثم عند الإسراء ليتأهب للمناجاة .

 

 

 

و قال العلامة ابن حجر : و يحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ لحصول المرة الثالثة ، كما هي في شرعه صلى الله عليه وسلم في الطهارة . (63)

 

قال الإمام السيوطي : و هذه الحكمة من أعظم الحكم و ألطفها و أدقها ، و حقها أن تكتب بماء الذهب على صفحات القلوب لإرتفاع محلها  .(64)

و  ليست الحكمة من هذه الحادثة و الله اعلم استئصال غدة الشر في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذ لو كان الشر منبعه غدة في الجسم أو علقة في بعض أنحائه ، لأمكن أن يصبح الشرير خيِّراً بعملية جراحية ، و لكن يبدو أن الحكمة هى إعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم  و تهيئته للعصمة و الوحي منذ صغره بوسائل مادية ، ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به و تصديقهم برسالته ، إنها إذاً عملية تطهير معنوي ، و لكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي ، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس و أبصارهم و إن كنا لا ننكر أن بين الجسم و النفس ، أو الظاهر و الباطن تبادلا ملحوظاً في التأثير و التأثر .

 

و أياً كانت الحكمة ، فلا ينبغي و قد ثبت الخبر ثبوتاً صحيحاً محاولة البحث عن مخارج لنخرج منها ، بهذا الحديث عن ظاهره و حقيقته إلى التأويلات الممجوجة البعيدة المتكلفة ، و لن تجد من مسوغ لمن يحاول هذا رغم ثبوت الخبر و صحته  إلا ضعف الإيمان بالله تعالى . (65)   

-----------------------------------------------

(45) تفسير التحرير و التنوير ج 30 ص 407 ، 408 .

(46) زاد المسير في علم التفسير ج9 ص 162 .

(48) تفسير ابن كثير ج 4 ص 344

(49) فتح القدير للشوكاني ج5 ص 461

(51) انظر فتح القدير ج7 ص 458

(52) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج 5 ص 340 ، 341 لأبي محمد عبد الحق عطية ، طبع بدولة قطر ، الطبعة الأولى ، الدوحة ، رجب 1403هـ ابريل (نيسان ) 1983 م

(53) انظر سيرة ابن هشام : ج 1 ص 180 و ما بعدها ، و الطبري في تاريخه : ج 2 ص 287 ، و البيهقي في سننه ، و أبي نعيم في الحلة ، و راجع عيون الأثر : (1-43) و تهذيب التهذيب ص 36 ،  وانظر . صحيح مسلم 1/101 و 102 ، و الترمذي في سننه كتاب المناقب 9/236

(54) فقه السيرة ، د / محمد سعيد رمضان البوطي ، ص 38 .

(55) صحيح مسلم : ج 1 ص 101 ، 102 و ثبت في الصحيح حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة .

(56) تفسير التحرير و التنوير : ج 2 ص 409

(57) صحيح مسلم : ج 1 ص 101 , 102

(58) مسند الإمام أحمد ج4 ص 184

(59) الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء ، للإمام جلال الدين السيوطي / ص 117 ، تحقيق محيي الدين مستو ، دار بان كثير دمشق ، و مكتبة دار التراث بالمدينة المنورة ، ط 1 ، 1405 هـ 1985 م .

(60) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، للحافظ ابن حجر ، ج1 ص 205 ، المطبعة السلفية بالقاهرة .

(61) أحكام القرآن لأبن بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ، ج 4 ص 1949 ، دار العسكر ببيروت ، طبعة محققة ، دون تاريخ

(62) الشما بتعريف حقوق المصطفى ، ج 1 ص 116 ، للقاضي عياض البحصبي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان

(63) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 7 ص 205

(64) الآية الكبري في شرح قصة الإسراء ص 118

(65) فقه السيرة للسيوطي ص 38   




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق