ثانياً : حديث القرآن عن شرح صدره صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)" ( الشرح ) .
احتوت هذه السورة الكريمة على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بلطف الله له و إزالة الغم و الحرج عنه ، و تفسير ما عسر عليه ، و تشريف قدره لينفس عنه ، فمضمونها شبيه بإنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به ، و إنارة سبيل الحق و ترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتداه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله ، و كان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم و اتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسراً كدأب الله تعالى في معاملته فلتحمل متاعب الرسالة و يرغب إلى الله عونه . (45)
قوله تعالى : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ" الشرح : الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك ، و الله تعالى فتح صدر نبيه للهدى و المعرفة بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق ، و معنى هذا الاستفهام : التقرير ، أي : قد فعلنا ذلك ؟ (46)
قال ابن كثير : يقول الله تعالى : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " يعني : إنا شرحنا لك صدرك ، أى نورناه و جعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً ، كقوله : " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ " ( الأنعام : 125 ) و كما شرح الله صدره ، كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق . (48)
و معلوم أن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره كما في هذه الاية " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " فصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك ، و إنما خص الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم و الإدراكات ، و المراد الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم ، بفتح صدره و توسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة ، و قدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة و حفظ الوحي . (49)
و مثل هذا قول الله تعالى : " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ " ( الزمر: 22 ) و المعنى : أي وسعه لقبول الحق و فتحه للإهتداء إلى سبيل الخير ، قال السدي : وسع صدره للإسلام للفرح به و الطمأنينة إليه ، قوله : " فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ "(الزمر :22) و المعنى : أفمن وسع الله صدره للإسلام فقبله و اهتدى بهديه (فَهُوَ) بسبب ذلك الشرح (عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) يفيض عليه كمن قسى قلبه لسوء اختياره ، فصار في ظلمات الضلالة و بليات الجهالة ؟
قال قتادة : النور كتاب الله به يؤخذ و إليه ينتهى . قال الزجاج : تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره كمن طبع علي قلبه فلم يهتد لقسوته . (51)
و الصدر المراد به الاحساس الباطني الجامع لمعنى العقل و الإدراك .
و شرح صدره صلى الله عليه وسلم كناية عن الإنعام بكل ما تطمح إليه النفس الزكية من الكمالات و إعلامه برضى الله عنه و بشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر .
هذا تفسير الآية بما يفيده نظامها و إستقلالها عن المرويات الخارجية ، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإسلام ، و عن الحسن قال : شرح صدره أي مُلئ علماً و حكماً ، و قال سهل بن عبد الله التستري : شرح صدره بنور الرسالة .
و على هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ، و نسبة ابن عطية إلى الجمهور . (52)
و يجوز أن يجعل الشرح شرحاً بدنيا ، وروى عن ابن عباس أنه فسره به ، و هو ظاهر الآية إشارة إلى مرويات شق صدره صلى الله عليه وسلم شقاً حسيا ً ، و هو المروى بعض خبره في الصحيحين . و المروى مطولا في السيرة و المسانيد (53) .فوقع بعض الروايات في الصحيحين أنه كان رؤيا في النوم ، و رؤيا الأنبياء و حي ، و في بعضها : أنه كان يقظة ، و هو ظاهر ما في البخاري ، و في صحيح مسلم أنه كان يقظة و بمرأى من غلمان أترابه ، فقد كان ذلك أثناء و جوده في مضارب بنى سعد من إرهاصات النبوة و دلائل اختيار الله إياه لأمر جليل ، و قد رويت هذه الحادثة بطرق صحيحة و عن كثير من الصحابة (54) منهم أنس بن مالك فيما يرويه مسلم في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرجه ، فاستخرج منه علقه فقال هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم أعاده إلى مكانه ، و جاء الغلمان يسعون إلى امه – مرضعته – ينادون أن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه و هو ممتقع اللون . (55) و جاء في صحيح مسلم ايضاً عن أنس بن مالك قال : رأيت أثر الشق ، في جلد صدر النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين النائم و اليقظان ، و الروايات مختلفة في زمانه و مكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة . (56)
و اختلاف الروايات حمل بعض أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع مرات ، منها حين كان عند حليمة كما جاء في صحيح مسلم (57) و في حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان و عُمْر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين (58) و الذي في الصحيح عن أبي ذر : أنه كان عند المعراج به إلى السماء ، و لعل بعضها كان رؤيا ، و بعضها حساً .
قال ابن دحية في معراجه و ابن المنير و غيرهما : (59) الصحيح أن شق الصدر مرتان ، قال شيخ الإسلام ابن حجر : بل ثلاث مرات ، ووقع له صلى الله عليه وسلم ذلك أي شق الصدر ثلاث مرات : الأولى و هو صغير في بنى سعد عند مرضعته حليمة رضي الله عنها
الثانية : عند البعثة
الثالثة :ليلة الإسراء .(60)
و ليس في شئ من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية ، و إذ قد كان ذاك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مراداً وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في الأحكام (61) و عليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته و هو الباطن الحاوي للقلب .
و من العلماء فسر الصدر بالقلب . حكاه القاضي عياض في الشفاء (62) . يشير إلى ما جاء في خبر شق الصدر من إخراج قلبه و إزالة مقر السوسة منه .
و كلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم إما مباشرة و إما باعتبار مغزاه كما لا يخفى .
و تكرار حادثة شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات له حِكَم ، فالأول كان في زمن طفولته صلى الله عليه وسلم لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ، ثم عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير ، ثم عند الإسراء ليتأهب للمناجاة .
و قال العلامة ابن حجر : و يحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ لحصول المرة الثالثة ، كما هي في شرعه صلى الله عليه وسلم في الطهارة . (63)
قال الإمام السيوطي : و هذه الحكمة من أعظم الحكم و ألطفها و أدقها ، و حقها أن تكتب بماء الذهب على صفحات القلوب لإرتفاع محلها .(64)
و ليست الحكمة من هذه الحادثة و الله اعلم استئصال غدة الشر في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو كان الشر منبعه غدة في الجسم أو علقة في بعض أنحائه ، لأمكن أن يصبح الشرير خيِّراً بعملية جراحية ، و لكن يبدو أن الحكمة هى إعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم و تهيئته للعصمة و الوحي منذ صغره بوسائل مادية ، ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به و تصديقهم برسالته ، إنها إذاً عملية تطهير معنوي ، و لكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي ، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس و أبصارهم و إن كنا لا ننكر أن بين الجسم و النفس ، أو الظاهر و الباطن تبادلا ملحوظاً في التأثير و التأثر .
و أياً كانت الحكمة ، فلا ينبغي و قد ثبت الخبر ثبوتاً صحيحاً محاولة البحث عن مخارج لنخرج منها ، بهذا الحديث عن ظاهره و حقيقته إلى التأويلات الممجوجة البعيدة المتكلفة ، و لن تجد من مسوغ لمن يحاول هذا رغم ثبوت الخبر و صحته إلا ضعف الإيمان بالله تعالى . (65)
-----------------------------------------------
(45) تفسير التحرير و التنوير ج 30 ص 407 ، 408 .
(46) زاد المسير في علم التفسير ج9 ص 162 .
(48) تفسير ابن كثير ج 4 ص 344
(49) فتح القدير للشوكاني ج5 ص 461
(51) انظر فتح القدير ج7 ص 458
(52) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج 5 ص 340 ، 341 لأبي محمد عبد الحق عطية ، طبع بدولة قطر ، الطبعة الأولى ، الدوحة ، رجب 1403هـ ابريل (نيسان ) 1983 م
(53) انظر سيرة ابن هشام : ج 1 ص 180 و ما بعدها ، و الطبري في تاريخه : ج 2 ص 287 ، و البيهقي في سننه ، و أبي نعيم في الحلة ، و راجع عيون الأثر : (1-43) و تهذيب التهذيب ص 36 ، وانظر . صحيح مسلم 1/101 و 102 ، و الترمذي في سننه كتاب المناقب 9/236
(54) فقه السيرة ، د / محمد سعيد رمضان البوطي ، ص 38 .
(55) صحيح مسلم : ج 1 ص 101 ، 102 و ثبت في الصحيح حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة .
(56) تفسير التحرير و التنوير : ج 2 ص 409
(57) صحيح مسلم : ج 1 ص 101 , 102
(58) مسند الإمام أحمد ج4 ص 184
(59) الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء ، للإمام جلال الدين السيوطي / ص 117 ، تحقيق محيي الدين مستو ، دار بان كثير دمشق ، و مكتبة دار التراث بالمدينة المنورة ، ط 1 ، 1405 هـ 1985 م .
(60) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، للحافظ ابن حجر ، ج1 ص 205 ، المطبعة السلفية بالقاهرة .
(61) أحكام القرآن لأبن بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ، ج 4 ص 1949 ، دار العسكر ببيروت ، طبعة محققة ، دون تاريخ
(62) الشما بتعريف حقوق المصطفى ، ج 1 ص 116 ، للقاضي عياض البحصبي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان
(63) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 7 ص 205
(64) الآية الكبري في شرح قصة الإسراء ص 118
(65) فقه السيرة للسيوطي ص 38