" الأمْنُ الفِكْرِي قِوَامُ الحَضَارَةِ "
الاضطرابُ الفكريُّ، والتباينُ بينَ الأقوالِ والأعمالِ، وتبدُّلُ القناعاتِ وتغييرُ المواقفِ وعدمُ الثباتِ على مبدأٍ أو أصلٍ يحتكمُ إليهِ منْ أعظمِ أسبابِ القلقِ النفسيِّ والترددِ والتلونِ الفكريِّ.
وقدْ وَصَفَ اللهُ تعالى المشركينَ بأنهمْ مضطربونَ في أفكارِهِم لا يثبتونَ على حالةٍ واحدةٍ بلْ التباينُ والاختلافُ هوَ السمةُ الغالبةُ عليهِمْ، فلا تجمَعُهُمْ عقيدةٌ واحدةٌ يؤمنونَ بها، ولا تؤلفُ بَيْنَهُمْ وِحْدَةٌ فكريةٌ يجتمعونَ عليها
ولهذا آمنوا بالباطلِ وكفروا بالحقِ، وسلكُوا طريقَ الشقاءِ وتنكَّبُوا طريقَ السعادةِ، وتمسَّكُوا بالغوايةِ وابتعَدُوا عنْ سبيلِ الهدايةِ. قالَ تعالى:{بلْ كَذَّبَوا بالحقِ لما جَاءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَرِيج}
أهلُ الباطلِ ليسَ لهمْ مواقفُ ثابتةٌ ومحددةٌ فيما حولهم منْ الأحداثِ، بلْ إنَّ مواقِفَهُم تَتَلَوَّنُ وتتعددُ حسبَ الطقسِ السياسيِّ والإعلاميِّ، وسرعانَ ما يغيِّرُون مواقِفَهُمْ كلما لاحَ لهمْ في الأفقِ مصلحةٌ.
أما أهلٌ المدينةِ فمع المنهجِ الثابتِ الواضحِ، والتشريعِ العادلِ، والعقيدةِ الصحيحةِ الشامخةِ التي رباهمْ عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرَ بأنْ يكفلَ لهمْ الأمنُ على عقائِدِهِم وأفكارِهِم، وتوعدَ أشدَّ الوعيدِ مَنْ أراد صرفَ أهلِ المدينةِ عنْ الحقِ أو تغيبَهُم عن دينِهِم، أو إشغالَهُم عن عبادةِ ربِهِم، أو أدخلَ الشكوكَ على عقائِدِهِم، أو جلبَ أدواتِ الفسادِ والانحرافِ إليهمْ.
بلْ توعَّدَ ساكنَ المدينةِ بأشدِّ أنواعِ الوعيدِ إذا تجرأَ على إيواءِ مثلِ هؤلاءِ أو التستُّرِ عليهِم، أو تمكينِهِم مِنْ عملِهِم الفاسدِ، فضلاً عنْ تأييدِهِم ونصرِتِهِم والدفاعِ عنهم.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً»
صحيح البخاري، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم (3/1157)، وباب إثم من تبرأ من مواليه (6/2482)، وصحيح مسلم، (2/994-996، 1147) 1370.
قالَ القاضي عياضٌ:«منْ أحدثَ في المدينةِ حدثاً»معناهُ: منْ أتَى فيها إثماً. وقالَ ابنُ الأثيرِ: الحدثُ الأمرُ الحادثُ المنكرُ الذي ليسَ بمعتادٍ ولا معروفٍ في السنةِ. وقالَ الملا عليٌّ القاري الحنفي: أي أظهرَ في المدينةِ منكراً وبدعةً، وهي ما خالفَ الكتابَ والسنةَ.
قالَ عياضٌ: «أو آوى محدثاً» أي آوى منْ أتاهُ وضَمَّهُ إليهِ وَحَمَاهُ. وقالَ ابنُ الأثيرِ: المُحْدِث بالكسرِ: منْ نصرَ جانياً، أو آواهُ، وأجارَهُ منْ خصمهِ، وحالَ بينهَ وبينَ أنْ يقتصَّ منهُ، وبالفتحِ: الأمرُ المبتدعُ نفسُهُ، ويكونُ معنى الإيواءِ فيهِ: الرضَا بهِ، والصَّبْرُ عليهِ، فإنهُ إذا رَضِيَ بالبدعةِ وأقرَّ فاعِلَهَا ولمْ ينكرْ عليهِ فقدْ آواهُ.
فالمحدثُ هوَ الجانِي على الناسِ بظلمِهِم وإيذائِهِم في أبدانِهِم أو أعراضِهِم، أو الجنايةِ على دينِهِم وعقائِدِهِم.
قالَ ابنُ حجرٍ:قولُه صلى الله عليه وسلم: «لا يقبلُ اللهُ منهُ صرفاً ولا عدلاً» اختُلِفَ في تَفْسِيرِهِمَا، فعندَ
الجمهورِ الصرفُ الفريضةُ، والعدلُ النافلةُ.
فهذا كفالةٌ لأهلِ المدينةِ بالأمنِ الفِكْرِيِّ على دينِهِم وعقائِدِهِم متى التَزَمُوا أمرَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدمِ الإحْدَاثِ فيها أو نصرةِ وتأييدِ المبتدعِ والمُحْدِثِ فيها.
والملاحظُ أنَّ كثيراً منْ الأمراضِ العضويةِ والنفسيةِ ناتجةٌ منِ الاضطرابِ الفكريِّ وكثرةِ الوساوسِ والشكوكِ.
وأيُّ إنسانٍ مَسَّهُ طائفٌ منْ الشيطانِ ببدعةٍ أو شبهةٍ أو شهوةٍ، ضَعُفَ إيمانُهُ وَرَقَّ دِيُنهُ، وتَرَدَّتْ أحوَالُهُ، وتَبَدَدَتْ طاقاتُهُ وقدرَاتُهُ
المقال السابق
المقال التالى