" الأَمْنُ الصِّحِّيُّ "
كانتِ المدينةُ النبويةُ موبوءةً تكثرُ فيها الحُمَّى، ما ينزِلُهَا أحدٌ إلا ويُصَابُ بهَا، ولا يَسْتَحِبُّ أحدٌ سُكْنَاهَا والمقامَ فيها لهذهِ الأوبئةِ بها. ولما هاجرَ إليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ووُعِكَ بعضُ أصحابهِ دعَا بأنْ يُصَحِحَهَا اللهُ لهمْ وأنْ يَنقلَ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ.
فَقدْ رَوَى البخاريُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ» قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً، تَعْنِي: مَاءً آجِنًا (صحيح البخاري، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، (2/667).
فأصبحتِ المدينةُ - وللهِ الحمدِ - منْ أصَحِّ البلدانِ، وأبعَدِهَا عنْ الأوبئةِ، بلْ إنها حُرِسَتْ بأمرِ اللهِ تعالى منْ دخولِ الوباءِ (الطاعونِ) الذي لا يتركُ بلداً إلا دَخَلَهُ.
ففي البخاريِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ» (صحيح البخاري، باب لا يدخل الدجال المدينة (2/664، 6/2609)، وصحيح مسلم (2/1005) 1379). وهذا فضلٌ منْ اللهِ وَمِنَّةٌ عَلَى أهلِ المدينةِ النبويةِ على سَاكِنِهَا أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليمِ.
وفي عجوةِ المدينةِ مقاومةٌ للسمِ والسِّحرِ لمنْ طَعِمَهَا في وقتِ الصباحِ قبلَ أنْ يأكلَ شيئاً.روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ» (صحيح مسلم، (3/1619) 2048).
روى البخاريُّ ومسلمٌ عنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضيَ اللهُ عنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ حَتَّى يُمْسِيَ» ( صحيح البخاري، باب الدواء بالعجوة للسحر (5/2176)، وصحيح مسلم، (3/1618) 2047).
وهنا وصفةٌ طبيةٌ نبويةٌ لمنْ أصيبَ بمرضٍ في قلبهِ بأنْ يَعْجِنَ عجوةَ المدينةِ معَ نَوَاهَا ويَخْلِطَهَا بالماءِ ثمَّ يَصُبُّهَا في فمهِ. روى أبو داودُ بسندٍ رجالُهُ ثقاتٌ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي، فَقَالَ: «إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ، ائْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ، فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنَّ بِنَوَاهُنَّ ثُمَّ ليَلُدَّكَ بِهِنَّ» (أخرجه أبو داود في سننه (4/7)، والطبراني في المعجم الكبير (6/50)، والضياء في المختارة (3/243).
كانت هذه اخر وقفة لنا مع المدينة النبوية
نسأل الله أن يجعلنا من سكانها وبجعل مماتنا على ارضها
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم