الأمْنُ قِوَامُ الحَضَارَةِ
الأمنُ هو قوامُ الحضاراتِ ومحضنُ الابداعِ والتفوقِ، فالحضاراتُ كُلُّهَا لا تبْنَى إلا في جوٍ نَقِيٍّ ومُنَاخٍ آمنٍ يأمنُ الناسُ فيهِ على أديَانِهِم وأروَاحِهِم وأموَالِهِم.والمدينةُ من أولِ يومٍ عرفتْ فيهِ الإسلامَ وحَلَّ فيها رسولُ اللهِ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلامِ أصبحتْ حرماً آمناً يأمنُ فيها الناسُ على حياتِهِم وممتلكاتِهِم، بلْ تَعَدَى هذا الأمنُ وهذهِ الحرمةُ إلى الطيورِ في أوكَارِهِا والأشجارُ في منَابِتِهَا. ففي صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:
«إني أحَرِّمُ المدينةَ ما بين لابَتَيْهَا لا يُقْطَعُ عضاهُهَا ولا يُصَادُ صَيْدُهَا»
صحيح مسلم، (2/992) 1362.
أيُّ مدينةٍ في الدنيا - غيَر مكةَ المكرمةِ - وصلتْ إلى هذهِ الحرمةِ وهذا التعظيمِ حتى الطيورُ والأشجارُ ينبغي أنْ تعيشَ آمنةً مِنْ كُلِ تكديرٍ أو أذَى يُصِيبُهَا؟! أيُّ حضارةٍ وأيُّ مدنيةٍ تكفلُ هذا الأمنَ لمنْ عاشَ فيها، وأيُّ مدينةٍ يتعينُ على الناسِ أنْ يَتَعَايَشُوا فيها بمثلِ هذا الأمنِ التامِ على أموالِهِم ودمائِهِم وأبشارِهِم، بلْ وعَلَى نفسِيَاتِهِم منْ الخوفِ والاضطرابِ أو التهديدِ والوعيدِ، أو المتابعةِ والمراقبةِ والكيدِ.
لقدْ تُوُعِّدَ كُلُ مَنْ سَوَّلَتْ لهُ نفسهُ كيدَ أهلِ المدينةِ وإخافتَهم - سواءٌ كانَ مِنْ دَاخِلِهَا أو خَارِجِهَا - بالعذابِ الأليمِ. فَفِي صحيحِ البخاريِّ عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا يكيدُ أهلَ المدينةِ أحدٌ إلا انماعَ كما ينماعُ الملحُ في الماءِ» صحيح البخاري، باب إثم من كاد أهل المدينة (2/664)وقالَ:«مَنْ أرادَ أهلَ هذهِ البلدةِ - يعني المدينةَ - بسوءٍ أَذَابَهُ اللهُ كما يذوبٌ الملحٌ في الماءِ» صحيح مسلم، (2/1007) 1386.
ففي هذهِ الأحاديثِ دلالةٌ على ما يجبُ أنْ يحظَى بهِ ساكنُ المدينةِ منْ الحرمةِ والأمنِ النفسيِّ، فضلاً عنْ الأمنِ العامِ على الأجسادِ والأموالِ والأولادِ.
كيفَ يتصورُ هذا المجتمعُ الطاهرُ الآمنُ على نفسِهِ ومالِهِ بلْ وعلى نَفْسِيَّتِهِ! وكيفَ تكونُ إنتاجِيَّتُهُ وتفاعُلُهُ معْ منْ حولَهُ؟
وكيفَ تكونُ حضارتُهُ وسعةُ أفقِهِ وغزارةُ علمِهِ وبراعةُ أفكارِهِ، وكيفَ يكونُ إبداعُهُ واختراعُهُ؛ إذ من المعلومِ والمقطوعِ بهِ أنَّ العلمَ والتفوقَ لا يقومانِ إلا في مثلِ هذهِ المناخاتِ الآمنةِ.
المقال السابق
المقال التالى