تختلف العقول والمدارك ، من شخص لآخر ، ومن جماعة لآخرى ، وذلك أمر بين وواضح ، وبدلك عن ذلك أن الطلاب في الفصل الواحد يختلفون في سرعة الاستجابة للأسئلة المطروحة ، وفي الفهم ، ولعل حديث أبي سعيد الخدري المروي في الصحيحين وغيرهما يجلي لنا ذلك الأمر : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس علىالمنبر فقال : عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عنده .فبكى أبو بكر فقال :
فديناك بآبائنا وأمهاتنا . قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخبر ، وكان أبو بكر هو أعلمنا به .. الحديث قال النووي : وكان أبو بكر رضي الله عنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو العبد المخبر فبكى حزناً على فراقة وانقطاع الوحي وغيره من الخير دائماً ، وإنما قال صلى الله عليه وسلم إن عبداً وأبهمه لينظر فهم أهل المعرفة ونباهة أصحاب الحذق ، أ هـ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : نعم . كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأولاهم به ، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة رضي الله عنهم ، ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه ، ويزيد عليهم ولا يخالفه . أ هـ .
ثم إن المقدرة على إيصال المعلومات إلى ذهن الطالب ، تختلف قوة وضعفاً من وسيلة لأخر ، ومن هذه الوسائل ، طريقة الشرح ، الإفصاح والكشف عن مراد المعلم ، ولذا كان من المهم جداً أن يعرف المعلم مستوى طلابه العقلي ، لأن ذلك يساعده في تحديد أسلوبه في عرض المواد العلمية ، وتلخيصها بما يوافق عقولهم ومداركهم ، ويوضح ذلك الأثار التالية :
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو ؟ قال : نعم . قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة . قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟ قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولو أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه في الأرض ) فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك بناء الكعبة على أساسها الذي بناها عليه إبراهيم عليه السلام ، من أجل الأمن من الوقوع في المفسدة ، والمفسدة هي : ( أن قريشاً كانت تعظم أمر الكعبة جداً فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليه في ذلك ) فأنظر رعاك الله كيف ترك الني صلى الله عليه وسلم أمراً عظيماً كهذا ، خشية أن تقصر أفهامهم عن إدراك الأمر على وجهه . ولكي نزيد الأمر وضوحاً ، هناك مثالين من تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم :
الأول : ما رواه البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله .
والثاني : ما رواه مسلم ، عن عبد الله بن مسعود قال : ( ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه ) فهذان الأثران يوضحان لنا أثر مخاطبه الناس بالاحاديث التي لا تحتملها عقولهم ، حتى ولو كانت تلك الأحاديث المحدث بها صحيحة ثابته عن رسول الله ، فإنه لما كانت عقولهم تقصر عن فهمها وإدراك حقائقها جاء النهي عن ذلك لكي لا يحدث لهم فتنه . والمعلمون لهم نصيب من ذلك ، وعليهم عبء كبير ن إذ إن على المعلم أن يجتهد في تبسيط المسائل ، وصياغة الألفاظ بعبارات واضحة مفهومة تناسب مستوى طلابه ، كي لا يقعوا في حيرة من أمرهم ، ولكي لا يصعب العلم عليهم .
قال العزالي في الإحياء : الوظيفة السادسة : أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه مالا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله إقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم ) فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها ..
وروى الحاكم في تاريخه بإسناده عن أبر قدامة عن النضر بن شميل قال سئل الخليل عن مسألة فأبطأ الجواب فيها قال فقلت ما في هذه المسألة كل هذا النظر ، قال : فرغت من المسألة وجوابها ولكني أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك ، قال أبو قدامة فحدثت به أبا عبيد فسر به ، وفي تاريخ عبدالله بن جعفر السرخسي أبي محمد الفقيه أخبرني محمد بن حامد حدثنا عبد الله بن أحمد سمعت الربيع سمعت الشافعي يقول : لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه .
الخلاصة :
1) اختلاف عقول وأفهام الطلاب من شخص لآخر ن ومن جماعة لأخرى .
2) براعة المعلم تكمن في قدرته على إيصال المعلومة للطالب كما ينبغي ، وليست في حشد النصوص والأدلة ، وكثرة المسائل .
3) تقدير المستوى العقلي للطلاب ، ومن ثم تعليمهم وتدريسهم على هذا الأساس .
4) أن تكليف عقل الطالب ما لا يحتمله ، وتحميله فوق طاقته ، لا يزيد الطالب إلا حيرة وجهلاً .