المظهر الحادي عشر : وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بعهد أزواجه .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيا لعهد أزواجه أمهات المؤمنين رضيَ الله عنهن ، ومهتما بأمورهن في حياتهن وبعد مماتهن ، يذكر جميلهن ، ويحسن إلى معارفهن وأقاربهن صلى الله عليه و سلم عن عائشة رضيَ الله عنها قالت : ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة ، وإني لم أدركها ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة ، قالت : فأغضبته يوما فقلت : خديجة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني قد رزقت حبها )) [1].
قال ابن حجر رحمه الله وفيه دليل على عظم قدرها عنده ، وعلى مزيد فضلها ، لأنه أغنت عن غيرها ، واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين ، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما ، وهي نحو الثلثين من المجموع ، ومع طول المدة فصان قلبها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك ، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها ، ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان ، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها ، فيكون لها مثل أجرهن لما ثبت أن من سن سنة حسنة ...)) وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال ، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل )) [2].
نعم أنها الأخلاق السامية والفضائل العظيمة حين تصنع من الناس قدوات ظاهرة في كل مجالات الحياة ، فيبقى في الناس ذكرهم ولو غابت عن الدنيا ذواتهم ، و تلهج الألسنة دوما بمعروفهم ، وتخفق القلوب بمحبتهم ، وتتحدث الأجيال عن مزاياهم جيلا بعد جيل .
قال النووي رحمه : في هذا دليل لحسن العهد ، وحفظ الود ، ورعاية حرمة الصاحب و العشير في حياته ووفاته ، وإكرام أهل ذلك الصاحب )) [3] .
وعن عائشة رضيَ الله عنها أيضا قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة ، فارتاع لذلك ، فقال : اللهم هالة )) ، قالت : فغرت فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها )) [4]، وقوله اللهم هالة )) : فيه حذف تقديره اجعلها هالة ، فعلى هذا فهو منصوب ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هذه هالة ، وعلى هذا هو مرفوع .
وفي الحديث من أحب شيئا أحب محبوباته ، وما يشبه وما يتعلق به )) [5].
هذا ، ولم يكن وفاء النبي بعهد أزواجه خاصا بخديجة رضيَ الله عنها بل كان يشملهن جميعا ، فعن عائشة رضيَ الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي : صلى الله عليه و سلم إن أمركن مما يهمني بعدي ، لن يصبر عليكن إلا الصابرون )) [6].
ولعل من أسباب اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أزواجه من بعده أنه تركهن بدون ميراث من مال ونحوه ، وقد خيرهن بين الدنيا ومتاعها ، وبين الآخرة وما عند الله تعالى من الرضوان الأكبر وجزيل الثواب ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة رضيَ الله عنهن وأرضاهن جميعا .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]صحيح مسلم ( 4 / 1888)
[2]فتح الباري ( 7 / 137 )
[3]شرح صحيح مسلم ( 15 / 202 )
[4]صحيح البخاري ( 3 / 1389 )
[5]فتح الباري ( 7 / 140 )
[6]المستدرك على الصحيحين ( 3 / 352 )