الدرس الخامس : أهمية الشورى في حل المشكلات الأسرية .
الشورى سنة مؤكدة وسيرة محفوظة ، كان يعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أقدم على عمل أو قول يستجوبها ، ويلجأ إليها فيما أغلق عليه من أمور الحياة ، فقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمور الدعوة إلى الله ، وفي مسائل الجهاد في سبيل الله ، وشاورهم في القضايا الأسرية والمشاكل الاجتماعية ، وكل ذلك من العمل بقول الله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [1]، وتعليما لأصحابه وسائر أمته من بعده بمبدأ عظيم من مبادئ إدارة الشأن العام دينيا كان أو دنيويا ، كما هو الواجب على المسلمين في كل زمان ومكان ، قال تعالى : {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [2].
وكان طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في الشورى كلما حزبه أمر أو هجم عليه شأن أن يختار من أصحابه أهل العلم والخبرة ، والألصق بموضوع الشورى و الأعرف بتفاصيله .
ولما انتشرت قصة الإفك بين الناس في المدينة ، وهلك فيها من هلك استشار النبي أصحابه ليستمع إلى آرائهم في الموضوع ، واختار لمشورتهم رجلين وامرأتين من أصحابه المقربين من بيت النبوة الكريمة .
أما الرجلان فهما : أولا : ختنه وابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قال له : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك )) ، وهو يشير بقوله هذا أن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله ويستريح من الشكوك والقيل والقال ، ولكن بلهجة ذكية ، لم يخف كنهها على عائشة رضيَ الله عنها ، ولقد وجدت عائشة من قوله موجدة عظيمة ، ولم ينسها له .
ولأهل العلم تأويل لكلام علي رضي الله عنه ، حيث قالوا : الذي قاله علي هو الصواب في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ، ولم يكن ذلك في نفس الأمر ، لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقه ، فأراد راحة خاطره ، وكان ذلك أهم من غيره )) [3]
والرجل الثاني : حبه وابن حبه أسامة بن زيد رضيَ الله عنهما الذي قال له : أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا )) ، وهو بهذا ينصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمسك بأهله ، فإن هذه مجرد شائعة لا غير ، وما يعرفه من طهارة أهله وشرفهم أكبر من أن يتزعزع بسببها .
وأما المرأتان فهما ، الأولى : بريرة مولاة عائشة وصديقتها في البيت وكانت عارفة بها ، وقالت لرسول الله لما سألها : والذي بعثك بالحق ، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه ، غير أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله )) ، فأكدت لرسول الله أن زوجها من المحصنات الغافلات البريئات مما رمين بها من الفاحشة .
والثانية هي : زينب بنت جحش رضيَ الله عنها إحدى أمهات المؤمنين ، وهي من كانت تسامي عائشة رضيَ الله عنها عند رسول الله ، وغالبا ما يحمل الحسد مثلها على الظلم والشهادة بالزور ، ولكنها رضيَ الله عنها كانت أورع وأعف لسانا من أن تفتري على أختها ما ليس لها به علم .
وبعد أن استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مستشاريه وتأمل في أقوالهم وشهاداتهم عزم أمره وتوكل على الله واتخذ موفقه الشخصي في هذا الأمر الخطير ، ألا وهو اعتقاد براءة أهله من كل ما رمي بها من الفاحشة ، إذ ليس عند الخائضين في الإفك بينة تثبت دعواهم الكاذبة ، ولا قرينة تدل على تلبث المتهمين بشيء من التهمة ، وليس في سيرتهما ما يقدح في عدالتهما ، أما عائشة فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : والله ما علمت على أهلي إلا خيرا )) ، وأما صفوان فشهد له بمثل ذلك فقال : ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما يدخل على أهلي إلا معي )) .
لم تكن الشورى في حادثة الإفك من حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، بل كانت عائشة رضيَ الله عنها في أمس الحاجة إلى من تستمع إليه وتأخذ برأيه في مصيبتها ، ولم يكن ذلك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا ما أحست به عائشة من نوع تغير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله معها ، لحد الامتناع من ذكر اسمها ونداءها بقوله صلى الله عليه و سلم تيكم ) ، ولما كان الأمر بهذه الوتيرة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذهب إلى أبويها لتستوثق منهما وتستشيرهما فيما تأتي أو تذر ، وكان أقربهما إليها أمها التي حاولت أن تخفف عنها وتلهيها قليلا بإرجاع الأمر إلى أسبابها الطبيعية فقالت لها : يا بنية هوني عليك ، فوالله قل ما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها )) ، وهذا الكلام وإن صدر من قلب حنون لم يكن لها في نفس عائشة كبير أثر ، فاستمرت في بكائها وأرقها .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]سورة آل عمران الآية 159
[2]سورة الشورى الآية 38
[3]شرح صحيح مسلم للنووي ( 17 / 108 )