وقد كان السلف خير أسوة في العدل بين أولادهم، حتى كانوا يستحبون التسوية بينهم في القُبَل[1]، وعاتب النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً أخذ الصبي وقبَّله ووضعه على حجره ولما جاءت بنته أجلسها إلى جانبه، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَجَاءَتْهُ بَنِيَّةٌ لَهُ فَأَجْلَسَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمَا ".رَوَاهُ الْبَزَّارُ [2]".
وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَ بُنَيٌّ لَهُ، " فَأَخَذَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بُنَيَّةٌ لَهُ، فَأَخَذَهَا وَأَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :" فَمَا عَدَلَتْ بَيْنَهُمَا "[3]
والعدل مطلوبٌ في المعاملة والعقوبة والنفقة والهِبَة والملاعبة والقُبَل، ولا يجوز تمييز أحد الأولاد بعطاء لحديث النعَمان المشهور حيث أراد أبوه أن يهبه دون أخوته فعَنْ أَبِي حَرِيزٍ، أَنَّ عَامِرًا، حَدَّثَهُ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ:إِنَّ وَالِدِي بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ رَوَاحَةَ نُفِسَتْ بِغُلاَمٍ، وَإِنِّي سَمَّيْتُهُ نُعْمَانَ، وَإِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى جَعَلْتُ لَهُ حَدِيقَةً لِي أَفْضَلَ مَالِي هُوَ، وَإِنَّهَا قَالَتْ:أَشْهِدِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :هَلْ لَكَ وَلَدٌ غَيْرَهُ ؟ قَالَ:نَعَمْ، قَالَ:لاَ تُشْهِدْنِي، إِلاَّ عَلَى عَدْلٍ، فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. [4]
إلا أن هناك أسباباً تبيح تمييز بعض الأولاد كاستخدام الحرمان من النفقة عقاباً، وإثابة المحسن بزيادة نفقته، أو أن يكون بعضهم محتاجاً لقلة ماله وكثرة عياله[5]، ولا يعني العدل تطابق أساليب المعاملة، بل يتميز الصغير والطفل العاجز أو المريض، وذلك لحاجتهما إلى العناية[6]. وكذلك الولد الذي يغيب عن الوالدين بعض أيام الأسبوع للدراسة أو العمل أو العلاج، ولابد أن يبيّن الوالدان لبقية الأولاد سبب تمييز المعاملة بلطف وإشفاق، وهذا التميز ليس بدرجة الكبيرة ولكن فرق يسير بين معاملة هؤلاء ومعاملة البقية، وهذا الفرق اليسير يتسامح الإخوة به ويتجاوزون عنه.
ومما يزرع الكراهية في نفوس الإخوة تلك المقارنات التي تُعقد بينهم، فيُمدح هذا ويُذم هذا، وقد يقال ذلك عند الأصدقاء والأقارب فيحزن الولد المذموم ويكره أخاه.
والعدل ليس في الظاهر فقط، فإن بعض الناس يعطي هذا خفية عن إخوته وهذا الاستخفاء يعلِّمُ الطفل الأنانية والتآمر.[7]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - انظر: المغني،لابن قدامة،5/666.
[2] - مسند البزار كاملا - (2 / 281)(6361) صحيح
[3] - شعب الإيمان - (11 / 154) (8327 ) حسن
[4] - صحيح ابن حبان - (11 / 507) (5107) وصحيح مسلم- المكنز - (4269)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رضى الله عنه :تَبَايُنُ الأَلْفَاظِ فِي قِصَّةِ النَّحْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ يُوهِمُ عَالِمًا مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ تَضَادٌّ وَتَهَاتُرٌ،وَلَيْسَ كَذَلِكَ،لأَنَّ النَّحْلَ مِنْ بَشِيرٍ لاِبْنِهِ كَانَ فِي مَوْضِعَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ،وَذَاكَ أَنَّ أَوَّلَ مَا وَلَدُ النُّعْمَانُ أَبَتْ عَمْرَةُ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى يَجْعَلَ لَهُ بَشِيرٌ حَدِيقَةً،فَفَعَلَ ذَلِكَ،وَأَرَادَ الإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ،فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :لاَ تُشْهِدْنِي إِلاَّ عَلَى عَدْلٍ،فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ،عَلَى مَا فِي خَبَرِ أَبِي حَرِيزٍ،تُصَرِّحُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ،أَنَّ الْحَيْفَ فِي النَّحْلِ بَيْنَ الأَوْلاَدِ غَيْرُ جَائِزٍ،فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّبِيِّ مُدَّةٌ،قَالَتْ عَمْرَةُ لِبَشِيرٍ:انْحَلِ ابْنِي هَذَا فَالْتَوَى عَلَيْهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ عَلَى مَا فِي خَبَرِ،أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ،وَالْمُغِيرَةِ،عَنِ الشَّعْبِيِّ،فَنَحَلَهُ غُلاَمًا،فَلَمَّا جَاءَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ،لِيُشْهِدَهُ،قَالَ:لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ،وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النُّعْمَانُ،قَدْ نَسِيَ الْحُكْمَ الأَوَّلَ،أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ،وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم :لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ،فِي الْكَرَّةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ فِي نَفْيِ جَوَازِهِ،وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّحْلَ فِي الْغُلاَمِ لِلنُّعْمَانِ كَانَ ذَلِكَ،وَالنُّعْمَانُ مُتَرَعْرِعٌ،أَنَّ فِيَ خَبَرِ عَاصِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ،أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:مَا هَذَا الْغُلاَمُ ؟ قَالَ:غُلاَمٌ أَعْطَانِيهِ أَبِي،فَدَلَّتْكَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ،عَلَى أَنَّ هَذَا النُّحْلَ غَيْرُ النُّحْلِ الَّذِي فِي خَبَرِ،أَبِي حَرِيزٍ،فِي الْحَدِيقَةِ،لأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِ عَمْرَةَ،عَنْ تَرْبِيَةِ النُّعْمَانِ عِنْدَمَا وَلَدَتْهُ،ضِدَّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ،أَنَّ أَخْبَارَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ،تَتَضَادُّ،وَتَهَاتَرُ .
[5] - انظر: المغني،لابن قدامة،5/604.
[6] - انظر: كيف نربي أطفالنا،لمحمود الاستانبولي،ص76.
[7] - انظر :الموسوعة الفقهية الكويتية - (7 / 75) و استمع إلى: شريط (تربية الأبناء)،لأحمد القطان.